Atwasat

حمار بوريدان يحمل أسفارا

سالم العوكلي الثلاثاء 01 ديسمبر 2020, 11:58 صباحا
سالم العوكلي

الحديث عن العلمانية ملتبس في ثقافتنا، ورغم أنها مسألة تاريخية معرفية، تقرن بين الاجتماعي والسياسي، إلا أنها محكوم عليها ثقافياوأخلاقيا مسبقا، وللتخلص من عبئها التاريخي والمعرفي رُبطت بالكفر أو بكونها معادية للدين، وهذه الأغلوطة التي تم تكريسها من الطبقة الدينية حرصا على مصالحها جعلت البحث فيها حتى في تاريخ الإسلام نفسه وفي نصوصه محفوفا بالتوجس وبالمخاطر.

لكل اصطلاح لحظة زمنية يخرج فيها ليتحول إلى مفهوم مرجعي، غير أن البحث في هذا المفهوم أو الفضاء المعرفي للاصطلاح قد يقودنا إلى تجلياته العملية في تاريخ الدول، وحضوره في الوعي الإنساني قبل أن يحضر في كلمة أو تعريف يكون أحيانا مثيرا أو منفرا وفق الثقافة أو العقل الذي يتداوله.

قد تكون مفردة الدنيوة أو إحالة شؤون الحياة من العلم اللدنّي إلى الدنيوي هي المرادف المناسب لهذا المفهوم الذي اتفِق على ترجمته العلمانية أو العالمانية نسبة إلى العالم بمعنى الدنيا التي يشغلها الإنسان مكانيا وتشغله زمانيا.

في كل حضارة ثمة صراع بين من يرون أن كل الأسئلة تمت الإجابة عنها حدسيا أو اعتقاديا عبر السحر ثم الأساطير ثم الوحي، وعلى الإنسان المؤمن أن لا يتجاوز هذه المعرفة المعطاة، وبين من يرون أن هذه الأسئلة بخصوص الكون والزمان والمكان وصولا إلى شؤون الإنسان الحياتية مفتوحة للبحث العقلي والعلمي، وأن ثمة جهازا ذكيا وضعه الخالق داخل جمجمة الإنسان مصمما في حال تنشيطه واستخدامه بأفضل السُّبل لأن يجيب عن كثير من الأسئلة والأحجيات الغامضة.

وحين نتحدث عن الإسلام كحضارة امتزجت فيها روحانية الدين ومنظومته القيمية مع تكتيكات واستراتيجيات دنيوية فرضتها اللحظات التاريخية والوقائع والظروف السياسية والاقتصادية، فسنبحث عن إرهاصات أو ضرورات هذا المفهوم الذي تعامل معه هذا الدين في طموحاته للتوسع وبناء الدولة وإصلاح المجتمعات ومنظومات الأخلاق المتعلقة بالعمل والسلوك اليومي، لدرجة التخلي أو تجاوز بعض النصوص من أجل الضرورة الحياتية أو المتغير الاجتماعي والثقافي، ولنا أمثلة قريبة جدا من عهد النبوة، كمثل إيقاف حد السرقة نتيجة متغيرات اجتماعية واقتصادية، أو إيقاف بند من بنود الزكاة بسبب تجاوزه عن طريق حركة الدين نفسه، ومثل هذه الإجراءات المبكرة التي اتخذها حاكم تربى في مدرسة النبوة تفتح لنا أفقا للتعامل مع تاريخية النص وتاريخانيته ومرونته وقدرته على التفاعل مع المتغيرات أو التراجع أمامها والأمثلة كثيرة.

بعض البحاث، وحتى من الحقل الديني نفسه، يتخذون من حادثة وحديث لنبي الإسلام ركيزةً لمفهوم الدنيوة الذي اصطلح على تسميته بالعلمانية وباعتبار أمور الدنيا والدراية أو العلم بها ذكرت في هذا الحديث أو الحادثة التي يعتبرها البعض مفصلية في التفريق بين الخبرة الإنسانية والوحي المنزل.

ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مربقوم يلقحون النخل، فقال "لو لم تفعلوا لصلح" قال فخرج شيصا. فمر بهم فقال "ما لنخلكم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا. قال "أنتم أعلم بأمر دنياكم". تحيلنا هذه الحادثة ذات المغزى إلى مبدأ الفصل بين الاعتقاد الغيبي وشؤون الحياة التي تتطلب خبرة إنسانية وعلمية تتراكم. لكن بعض المنافحين عن العلم الأزلي عادة ما يشككون في الحديث أو الوقائع التي لا تخدم تصوراتهم أو رؤاهم، وفي الأحوال جميعها سواء كانت الأحاديث صادرة عن النبي أم لا، فما يهم أنها خرجت في زمن ما وأملتها الضرورة الحياتية، وحتى في حالة نسبتها المشكوك فيها إلى النبي فهي تعكس حاجات تطلَّبها ذلك العصر سواء كان مؤلفها فردا حكيما أو مثقفا أو صاحب مصلحة ، أو كان مجموعة بشرية، كما في تاريخ الثقافة والمعرفة الإنسانية.

من جانب آخر يعزل البعض هذه الحادثة عن التاريخ ويعتبرها من الندرة لدرجة لا تصلح لتكريس مفهوم أو اصطلاح أو إستراتيجية معرفة، وهذا سيحيلنا إلى تاريخ الإسلام برمته ومدى ارتباط ظهوره وإعلانه وتوسعه وسياساته وإداراته فيما بعد بممكنات العقل والتفكير والتخطيط الإنساني مستفيدا من كل خبرات الإدارة والتكتيكات العسكرية في الإمبراطوريات السابقة له.

يقول المفكر علي حرب في سياق دعوته لإعمال القراءة النقدية العلمية للتراث الديني نصا وسيرة: "وحدها مثل هذه النظرة النقدية المتفتحة تجعلنا نتقبل الاختلاف كواقعة أصلية لا مجال لإنكارها أو إدانتها... من هنا لا سبيل لأن يقبل الواحد بالآخر ويعترف بحقه إلا بالنظر إلى العقائد والنصوص من خلال تاريخيتها وناسوتيتها، وإلى الدول والمؤسسات والأحكام من خلال مدنيتها وعلمانيتها".*

لا يعترف البعض بما حدث من صراعات سياسية بعد وفاة محمد عليه الصلاة والسلام، ويعتبر أن المرجع والمنهج والقاعدة في فترة النبوة والسنة النبوية فيما يخص الأحداث والوقائع التي صاحبت تلك الفترة، غير أنه حتى بالنظر إلى فترة النبوة سنجد أن الصراع على الأرض خضع لكل متطلبات تأسيس الدولة بمفهومها المدني، حيث كان النبي يستشير أصحابه من ذوي الخبرة في شؤون الحرب والغزوات ووضع الخطط العسكرية الدقيقة كما حدث في غزوة بدر وغزوة الخندق التي أشار فيها الفارسي سلمان بخطة حفر الخندق لأنه قادم من حضارة تعرفت مسبقا على تكتيكات حصار المدن وإحاطتها بأسوار أو خنادق تحميها، حتى إن مفردة خندق فارسية في الأصل، وكأي مؤسس لدولة ستصبح فيما بعد إمبراطورية كبرى كان النبي يعبئ القوى ويحشد ويشن الحروب ويفتح الأقطار مع مشروع إصلاح للعلاقات والسلوك البشري فوق الأرض ولمنظومات الأخلاق في السياسة والاقتصاد والاجتماع، مستقيا هذه القيم من النص القرآني ومن الطبيعة الإنسانية التي اختزلها في قوله: أخياركم في الجاهلية أخياركم في الإسلام.

أما الخلافة فكانت منذ اجتماع السقيفة تعلن عن مؤسستها الدنيوية المدنية مستجيبة للصراعات التي كانت تسم المكان والزمان في ذلك الوقت ومتفاعلة معها (والمسألة أن بعض المجتهدين فيما بعد طوعوا التاريخ للرأي الفقهي بدل العكس، أو وضعوا التاريخ في سرير بروكست الاجتهادي).

وهذا الصراع الدنيوي السياسي الخاضع لمقتضيات الواقع أدى في النهاية إلى قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وإلى تحارب بعض الصحابة المبشرين بالجنة واقتتالهم، وإلى أن يقتل بعد فترة قصيرة من تاريخ النبوة حفيد أبي سفيان حفيد النبي، في مفارقة لا يمكن أن يقترحها إلا التاريخ وتراجيديا تتسم بالسرد البشري. وكل هذه الحوادث التي رافقت صراع السلف من المفترض أن تقرأ بعقل تحليلي نقدي يضعنا في مسار التاريخ من جديد.

من جانب آخر، لم يسجل لنا التاريخ، فيما بعد، ما يسمى "دولة إسلامية"، ولكن عرفنا دولا نسبت إلى أصحابها المؤسسين أو القائمين عليها أو إلى قبيلة أو أسرة أو فرد، أو إلى حيزها الجغرافي، مثل : الخلافة الأموية أو الخلافة العباسية، والدولة السلجوقية والحمدانية والفاطمية والأيوبية، أو الأندلسية... إلخ. وكلها دول باختلاف نظمها السياسية كانت تُبنى على أساس مدني خاضع لكل الصراعات التي تحدث في أي كيان سياسي. والتاريخ علمنا أن كل ما هو إلهي يتحول تلقائيا إلى ناسوتي بمجرد أن يتحول إلى لغة أنشأها الناس وتحاوروا بها وقطعوا مديات كثيرة في تأويلها عبر هذا الجهاز العظيم المخلوق في جماجمنا؛ والذي إذا لم نستخدمه سينطبق علينا قول القرآن الكريم "كحمار يحمل أسفارا". وبالتالي لا نريد أن نكون كحمار يحمل رأسا، أو مثل "حمار بوريدان" الذي مات جوعا بين حزمتي تبن مغريتين بالقدر نفسه وعلى بعد متساو منه. وهي مفارقة فلسفية معدلة ابتدعها بوريدان في مفهوم حرية الإرادة.