Atwasat

أشياء صغيرة

رافد علي الأحد 22 نوفمبر 2020, 05:28 صباحا
رافد علي

يحلق هربرت ادورد ريد في مثالية صاخبة في فرضيته أن الثقافة ستختفي عندما يصبح الإنسان في حالة كمال، فيلامس الحد الأقصى في التثقيف الذاتي، فلا يحتاج حينها إلى عون خارجي يستزيد منه، كالفنون على سبيل المثال. هذه الفكرة عند ريد تجد جذورها عنده كونه كان من أنصار اللاسلطوية، التيار الفلسفي الذي شاع بأوروبا حتى ما بعد منتصف القرن الماضي.

الثقافة، رغم حالة الغموض فيها كمصطلح بثقافتنا العربية، سنحاول أن نقف عند حالة النهج التقليدي جدا لتأصيلها، بغرض ملامسة هويتها وصولًا إلى مضمونها، فالثقافة عند علماء الاجتماع هي المنظومة الاجتماعية التي تتضمن المعرفة والاعتقاد والقانون والأعراف التي يكتسبها الفرد في محيطه الاجتماعي. وهذا التعريف يقارب ما يتبناه قاموس أكسفورد لمفردة ثقافة أو «Culture».
وهناك الثقافة بالمعني الإبداعي الراقي في التهذيب والمعرفة الذي يسعي الإنسان إلى الانخراط فيه لإشباع فضول معرفي، أو لصقل شخصيته في إطار لخلق ذات رفيعة في سلوكها ووعيها وميولها الذهنية والحسية.

من سنن الحياة أن لكل ثقافة أزمة، سواء كانت الثقافة الإبداعية الراقية، أو الثقافة بالمفهوم المجتمعي أو السوسيولوجي، فالثقافة المجتمعية تتبدى أزمتها في اختلال منظومة القيم فيها ضمن وسطها البشري الفاعل، بسبب تحولات جذرية تسود واقعها، بما يسبب حالة فراغ قيمي يكون كاشفًا عن نفسه، أو يكون في صورة عدم كفاءة قيمة موجودة للتمشي مع مستجدات الراهن تماشيًا مع نسبية الأحوال عند البشر وفق الزمكانية.

في حين أن ثقافة الإبداع الفني تتجلى أزمتها من خلال تسليط أساليب القهر والرقابة والبوليسية وأحادية الأيديولوجيا عليها. فالمثقف الواعي عادة ما يكون في حالة صراع مع واقعه المعيش، من حيث أُطر الراهن بكونه إنسانًا يسعى لخلق واقع أفضل، وهذا يتجلى في إرهاصات مفكري عصر التنوير الذين تحدثوا عن قيم وأوضاع سبقت الثورة الفرنسية، وكذلك أيضًا حينما كان الفنان والكاتب الأوروبي يغازل عصرًا نهضويًّا يخالف الواقع حينذاك. فالفكر والواقع في حالة تضاد عادة، خصوصًا عندما يكون الواقع عاجزًا عن مسايرة الفكر بما يفرز المثقف المتمرد على واقعه والسلطات المسيطرة فيه.

لربما أن الإشكالية في أزمة الثقافة تبرز بأكثر حدة عندما يكون الفكر، كأداة تحريك للثقافة، عاجزًا عن مجاراة الواقع المتغيّر بحكم تطور تفاصيل الحياة، بحيث تلح الحاجة إلى خلق قيم جديدة، أو تطوير أخرى قديمة للمنظومة الاجتماعية والأخلاقية. الخطاب الديني بعالمنا الإسلامي بما يعتريه من عجز عن مجاراة بعض مفاهيم العصر، كالمرأة والتسامح وحرية الاعتقاد، أجده يقبع في هذه الخانة، لا لشيء، وإنما لحالة الجمود، ولانغلاق باب الاجتهاد الفقهي، وللتمنع لإعطاء الروح الإبداعية فرصة لخوض غمار عصرها ونسق القيم فيه.

في القرن التاسع عشر سادت بالغرب أزمة ثقافية محورها كيف للثقافة مجاراة العلم والتقنية الحديثة في ظل عصر الصناعات، فقام الحوار الشهير بين توماس هكسلي وماثيو أرنولد، ورفع المثقفون الفرنسيون شعار «الفن للفن» لإبعاد الفن عن النزعة المادية، واستمرت المناقشة وتبعات الحوار وصولًا إلى مقالة اللورد «Snow» عن الثقافتين -ثقافة العلم المنبثقة من العلوم التطبيقية، وثقافة الإبداع الفني المتصل بالعلوم الإنسانية- التي كان فيها محور الفكرة فيها هو كيف للإنسان في ظل تبدل الحياة، والتشيؤ فيها، أن يحافظ على ملكات إبداعية تنادي لذاتها بحق الوجود والاستمرار؟
حالة الصدام أو النزاع بين الفكر والواقع أمر حتمي لكل ثقافات شعوب الأرض، فالمثقف شخص منطلق، يفكر فيما يجب أن يكون، لا مجرد متأمل فيما هو كائن فقط، لذا تكون المحورية في النزاع الثقافي هنا هي في نوعية العقل المراد خلقه كما يرى فؤاد زكريا في مقالته بجريدة العربي الكويتية، كيف نفكر في أزمة الثقافة، فالتقليدية تحبذ دائمًا عقلًا مطيعًا ووديعًا، يتبع ولا يناقش، في حين أن «التقدمية» في الثقافة الراقية، المتجاوزة للثقافة الشعبية، تسعى لأن تكون للعقل ومنطقه حالة تزاوج مع العصر ورهاناته. فالمثقف عند فؤاد، لا يسكن، ولا يهدأ، ولربما كتاب جيد قد يؤرقه، أو لوحة فنية جميلة قد تثير فيه الأسئلة، أو واقع مرير قد يدفعه لأن يكفر بالهرطقة فيه.

في عصر الحداثة تفطن تيودور أورنو وماكس هوركهايمر لظاهرة تسلع الثقافة، وصاغا معًا مصطلح «الثقافة المصنعة» لإبراز تراجع العقل في الغرب، منبهين لخطورة تسلع الثقافة، لأنها تولد في ذهن العباد الرغبة في البحث عن السعادة والرخاء من خلال السلع التي يروج لها النظام السائد عبر الدعاية في وسائل الميديا عمومًا بما يلهي الناس عن قضاياهم الأساسية، ويخلق روحًا سلبية تعم. فأدورنو يفضل اختفاء الفن عمومًا على أن يكون صنيعة تحتكرها السلطة. رفيقهما في مدرسة فرانكفور، ماركيوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، يرى أن الثقافة الراقية المناهضة للظلم، والمتمردة على القمع والاستبداد قد تلاشت بسبب أنها أمست جزءًا من ثقافة المجتمع المادية، مما غيب التفكير النقدي في المجتمع الصناعي، وغاب بالتالي الاحتياج الفني.

التفكير النقدي أو كما يعرف بـ«Critical Thinking» من الأشياء المفقودة في ثقافتنا العربية والإسلامية، ومنذ عصور طويلة، لأننا كأمة نعتقد بأننا لسنا على حق وحسب، بل امتلكنا اليقين، وبأثر رجعي، ونتناسى أن التشكيل البشري للدين عبر الزمن، ومتطلبات الحياة شيء حتمي، بل قهري، فلا حاجة إلى التفكير ولا للنقد، ولا لكليهما معًا! قد سادت لدينا فكرة تسيطر على تفكيرنا بأن الأولين قد قاموا بكل شيء لأجلنا، وما زالت أساليبنا التعليمية ومناهجها تعتمد وتكرس الحفظ أكثر من الفهم، كما يقول محمود كيشانة في مقالته «التعليم والتفكير النقدي»، على موقع «مؤمنون بلا حدود».

ما زلنا حتى التو كثقافة نعتقد أن ما أنتج فقهيًّا قديمًا مُخلص لنا من محنتنا بمجرد أن ننقل منه ونقيس عليه بذهنية متكاسلة تحجم عن المبادرة بالاجتهاد التجديدي رغم كل شواهد الانحطاط الحضاري، والتخلف الفكري، والعوز المعرفي المعاصر في التقنية والصناعة. لقد أصبحنا غرباء عن عالمنا، ونتعايش في المحنة بلا تفكير أو نقد حقيقي وحتمًا بلا نجاعة، لكننا ألفنا الخوف.