Atwasat

خسارة ترامب هزيمة للشعبوية

جمعة بوكليب الخميس 19 نوفمبر 2020, 02:14 صباحا
جمعة بوكليب

في السياسة لا توجد نهايات سعيدة، هذا ما يردده العارفون. ويقولون، أيضًا، لا صداقة ولا عداوة دائمة في السياسة بل مصالح دائمة. الأقوال عديدة جدا، وقد لا نتمكن من حصرها، وكلها تكشف خبايا عالم لم يعد، كما كان، خفيًّا. فكيف لا يتعظ أهل الساسة من التجارب؟ ولماذا يتجاهلون دروس التاريخ؟ وهل في السلطة والنفوذ شيء ما يجعل من يصل إليهما ويحظى بهما عَميًّا عن التبصر والرؤية؟ ما دعاني إلى التطرق إلى هذا الموضوع، الدراما الشكسبيرية التي شاهدنا فصولها، خلال الأيام الماضية، في واشنطن، وما تلاها بأيام في لندن.

الرئيس ترامب ما زال، حتى لحظة كتابة هذه السطور، يرفض بعناد الاعتراف بخسارته في الانتخابات الرئاسية، ويصرُّ على أن الفوز سُرق منه بالتزوير، من دون تقديم برهان أو دليل. ولا أحد بمستطاعه حاليا التنبؤ بما يدور في ذهن السيد ترامب من أفكار، وإلى متى سيواصل العناد، وما نتيجته؟ المسكين، ليس بمستطاعه تصديق حقيقة أنه سيترك كل تلك الأبهة والامتيازات والجبروت والأضواء، ويعود إلى سابق حياته، كرجل أعمال مثل آلاف غيره.

الدراما الحقة والعسيرة فعليا، ليست تلك التي تبدو في تصرفاته، بل ما يدور في داخله من منولوجات درامية طويلة، تذكّر، مع الفارق، بمنولوجات الأمير هاملت، خلال محنته.
الدراما الأخرى حدثت في لندن، خلال نهاية الأسبوع الماضي، حين شاهد العالم السيد دومينيك كاميينغز، كبير مستشاري رئيس الوزراء بوريس جونسون، يغادر مساء الجمعة 10 داوننغ ستريت، حاملا حاجياته في صندوق كرتوني، وكأنه يحمل رُفات طفله، وحزن العالم قد حط على كتفيه. الغريب، أن نفس الشخص، منذ وصول السيد جونسون إلى السلطة في شهر يوليو 2019، وحتى أيام قليلة قبل خروجه، كان الفاطق الناطق في مقر رئيس الحكومة.

يخشاه الوزراء والنواب المنتخبون من الشعب، وكبار الموظفين والمستشارين، ويجري خلفه الصحفيون ملاحقين على أمل الحصول على تعليق عابر، ويتبارى المحللون السياسيون في التنبؤ بخطواته القادمة، وهو، كملك بتفويض إلهي، يمضي متأنيًا في طريقه غير ملتفت.

يأمر فيطاع، ويتكلم فينصت الجميع، ثم ومن دون مقدمات، ينهار ذلك العالم، وتتلاشى تلك المملكة دفعة واحدة، وفي ساعات معدودة، وتتفتت تلك القوة والعنجهية والغطرسة، ويطرد شر طردة، بأمر من رئيس الوزراء، من أراضي مملكته، التي حكمها بالرعب والتخويف، فلا يحرك نأمة تعاطف يتيمة في قلوب الناس، ويجد نفسه وحيدا منبوذا من الرجل الذي سخر كل مواهبه وجهوده وعبقريته من أجله، ويغادر لوحده مجرجرًا قدميه، تلاحقه عدسات المصورين، بشكل يعيد للأذهان مأساة الملك لير، لدى اكتشافه ضياع ملكه بخطأ من صنع يديه. 

وإذا كان الرئيس ترامب، قبل توليه الرئاسة، رجل أعمال لا همَّ له إلا عقد الصفقات، وإبرام العقود، ومراكمة الأرباح، من دون رصيد سياسي سابق أو خبرة، فإن الأمر يختلف مع السيد كاميينغز، رغم اشتراكهما في الكثير من القواسم، إلا أن الاثنين، جاءا إلى السلطة منتصرين معا تحت راية الشعبوية، ومناوأة النخب السياسية، وغادراها معا خاسرين في وقت واحد، بضربة قاتلة من تلك النخب التي جاءا للقضاء عليها.

والحقيقة، أن خروج الرجلين من السلطة في وقت واحد ليس مصادفة. ذلك أن وصول السيد ترامب إلى السلطة في واشنطن كان له تأثير على ما حدث في لندن في صيف ذلك العام 2016. فترامب جاء محمولا على موج الشعبوية، ووصل بأجندة سياسية شعبوية، أدت إلى التفاف الناخبين من حوله. آخذين في الاعتبار العلاقة التاريخية بين البلدين، والتأثير السياسي المتبادل بينهما فيما يطرأ من تطورات سياسية، مهد فوز ترامب الأرض أمام أنصار الخروج في بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بعد أن أعلن وقوفه إلى جانبهم، خلال زيارة رسمية قام بها إلى لندن.

وقتذاك، كان السيد كاميينغز يقود من غرفة العمليات حملة الخروج. وبالفعل، سارت الأمور لصالحهم، كما سارت لصالح غيرهم من الحركات الشعبوية، في بلدان العالم الأخرى، خصوصا إيطاليا والمجر وبولندا والبرازيل. وبدا كأن ترامب يقود من واشنطن حركة شعبوية جاءت لتعيد رسم خريطة العالم سياسيا.

بعد أربعة أعوام، وقع الفأس على الرأس في واشنطن، وخسر ترامب المنافسة، الأمر الذي أحيا الأمل في قلوب الليبراليين بقدرتهم على هزيمة الشعبوية في العالم، بعد أن أبانت الانتخابات الأميركية إمكانية هزيمتها. التوقعات المنشورة في وسائل الإعلام تشير إلى أن العد التنازلي للشعبويين قد بدأ.

وما حدث للسيد كاميينغز ليس سوى إشارة أولى في نفس السياق، وستتلوها أخرى في البرازيل خلال عقد الانتخابات المحلية في الأيام القادمة. لذلك، فإن وصول بايدن إلى البيت الأبيض، هيأ المناخ أمام رئيس الوزراء البريطاني لإعادة ترتيب البيت داخليا بما يتناسب والتطورات الأميركية، وهذا يعني التخلص من كاميينغز ورفاقه من المعادين للتقارب مع أوروبا، الذين احتلوا مقر رئاسة الحكومة قرابة عام ونصف العام. فالرئيس الأميركي المنتخب معروف بمعارضته لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومع دعم وتقوية حلف الناتو.

التوقعات تشير حاليا إلى أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي ولكن باتفاق بهدف عدم تقويض اتفاقية السلام في أيرلندا الشمالية، كما يدعو إلى ذلك الرئيس الأميركي المنتخب، لتتمكن من كسب وده، وموافقته على عقد اتفاق تجاري مأمول.