Atwasat

«بوابة اللاعودة»

بشير زعبية الثلاثاء 17 نوفمبر 2020, 10:58 صباحا
بشير زعبية

وقفت عند مَعلم لن ينسى الأفارقة مدلوله، إذ أُقيم كي يذكِّر أجيالهم المتعاقبة بإحدى أكبر وأبشع المظالم التاريخية التي لحقت بأجدادهم.

إنها «بوابة اللاعودة»، ذلك النصب الذي يطل على المحيط الأطلسي مباشرة وخلفه بلدة «ويداه» جنوب بنين (داهومي سابقًا)، ومن حولها الغابة، وقد شيِّد هذا النصب منتصف التسعينات بمبادرة من «اليونيسكو»، ليكون شاهدًا على إحدى أكبر المآسي الإنسانية في تاريخنا، التي عرفت بـ«تجارة العبيد»، التي استمرت طوال الزمن الفاصل بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، وكانت بنين، إحدى المراكز الرئيسية لهذه التجارة.
المكان مهيب ويجبرك على الوقوف مشدوهًا ومشدودًا، تارة ترنو إلى ذلك الخط الغامق عند التقاء الأفق بآخر المحيط، وأخرى تلتفت يمينًا ثم يسارًا، وإلى الخلف تحت سيطرة مخيِّلة تقودك إلى مشهد اصطياد أبناء الغابة التي خلفك، وجرّهم نحو هذه البوابة، وشحنهم إلى ما وراء المحيط، هكذا قال لي المرافق البنيني، هنا في هذه الغابة المحيطة بالمكان.

كان زعماء القبائل يشرفون على عمليات صيد الأفارقة أبناء جلدتهم، ويسلمونهم للتجار والسماسرة البيض القادمين من وراء المحيط، مقابل أثمان تبدو اليوم غاية في الرخص، لكنها في ذلك الوقت وعزلة هذه الغابات عن العالم كانت تبدو شيئًا غير مألوف، بل وساحرًا.

كان الثمن الذي يغري زعيم القبيلة ليصطاد ويبيع ابن غابته، هو البارود، والمرآة، ربما لأنها جعلته يشاهد ويتفحص وجهه للمرة الأولى بالشكل الذي يراه.

غبت للحظة عن واقع المكان، قلت للمرافق: «كأنما كان الأفريقي يصطاد نفسه»، ردّ: «هذا هو التاريخ»، وأنا أدير ظهري للماء لتكون الغابة أمامي، مستحضرًا مشهد ذلك الأفريقي وهو يركض بين هذه الأشجار الكثيفة المتشابكة كحيوان مرعوب من خطر قريب، حين أحس بحركة مطارديه المتحفزين لاصطياده، ثم حين يضيقون عليه الخناق، ويتمكنون منه، ويزجونه مقيدًا إلى جانب آخرين من شركاء المصير نفسه، قبل أن يجرجر عبر هذا الطريق الترابي الذي مررت منه قبل حين، وأنا باتجاه «بوابة اللاعودة» لا بد أن هذه الطريق بقيت على حالها وبدائيتها.
ذهب بي الخيال لأرى وجه ذلك الأفريقي وهو يستسلم مجبرًا لصائديه، وأتمعن في ملامحه، إذ تعكس إحساسًا طاغيًا بالقهر، عينان تقاومان الدمع، وفم فاغر بشفتين تأخذان شكل ولون اليباس، وخرائط من مزيج العرق والتراب رسمت بعشوائية على سائر الجسد العاري، حتى صفحة الوجه، كأنما الجسد كله اقتلع لتوه كما تُقتلع أشجار الغابة.

لا شك أنه راوده الشعور بأنه اقتُلع بالفعل، وها هو يجر كما تجر الشجرة المقتلعة من أمها الغابة، ها هو ضمن سلسلة بشرية سوداء، تقاد نحو المجهول، قد يكون هذا المنهك الذي في أول السلسلة، أم ذاك الذي في المؤخرة، أم الذي في المنتصف. وأنا في الطريق، كنت أتخيل أن هذه الآثار المحفورة في التراب، هي آثار أقدامه، لا بد أنه كان يترنح من ثقل القيود التي تشد الجميع مشكِّلة منهم تلك السلسلة من الأجساد.

لقد أُتيح لي أن أرى تلك القيود المحفوظة في متحف قريب من «البوابة» يحوي الأدوات التي كانت تستخدَم في عملية صيد الأفارقة، وصناعة مأساة «تجارة العبيد»، وليس بعيدًا عن هذا المتحف تنتصب شجرة كبيرة مشوّكة الأغصان، أخبرنا المرافق أن البعض كان يتسلقها، على الرغم من أشواكها المدمية في محاولة للهرب من صياديه.

وأنا أتجه بنظري نحو الغابة حينًا وباتجاه الأفق حينًا آخر، كنت أحاول أن أصل إلى ذلك الإحساس الذي ينتاب ذلك الإنسان الأفريقي حين يقتنص التفاتة نحو الغابة التي تنأى وهو يجرّ غصبًا ويحشر في سفينة شحن البشر، وما الشعور الذي يغرق فيه، إذا ما أتيحت له كوّة ما، عندما تبحر السفينة، وهو يرى الغابة تتباعد، وتتباعد حتى لا يميز من محيطه شيئًا سوى الماء، وصوت البحر المتداخل مع أنات رفاقه الذين يحملقون في فضاء تابوت كبير على هيئة سفينة بعيون تحبس دموعها، لقد أدركوا أنهم اقتُلعوا من غابتهم تمامًا، وأنهم الآن في رحلة اللاعودة.