Atwasat

واجهة التاريخ وتياراته العميقة

سالم العوكلي الثلاثاء 17 نوفمبر 2020, 10:18 صباحا
سالم العوكلي

لسلوى كل من يشكو من هذه السنوات الصعبة والمعاناة اليومية، كنت استعين بعبارة مواسية، مفادها: أن تقرأ التاريخ شيء، وأن تعيشه ساعة بساعة شيء آخر. وكأني كنت أزعم ما عشناه في هذه الفترة ولنقل، بداية من ثورة فبراير حتى الآن، هو التاريخ الذي أصبحنا جزءا منه أو شاهدين عليه أو ضحايا له. ولكن ألم يكن ما عشناه قبل ذلك تاريخا؟ أو أليس ما يعيشه المرء منذ أول وعيه بالتاريخ تاريخا يستمر حتى موته أو حتى فقدانه للذاكرة إذا ما أصيب بمرض زهايمر؟ فالتاريخ هو الذاكرة، أو الذاكرة هي التاريخ، وحين نفقدها نفقد تاريخنا بل ونفقد هويتنا.

كثيرا ما أتساءل عن لحظة أو فترة وعيي الأول بالتاريخ، وتقصى سني عمري السابق، وكثيرا ما أتوقف عند حادثة في الذاكرة أعتقد أنها تشكل صلتي الأولى بالتاريخ، وإن لم تشكل فطنتي حياله.

منتصف الستينيات زار بيتنا جهاز مكسوٌّ بثوب من الجلد البني، يبرز منه قضيب معدني لامع قابل للطي، بالإمكان عبر ضغطة صغيرة على زر أن ينطلق بكلام لا يتوقف، تعاملت معه كلعبة ناطقة، وحدث مرة أن عاد أبي للبيت صحبة بعض رفاقه، وجدني قرب الراديو فسألني عما سمعت، فقلت له اليهود وإسرائيل تعاركوا. ضحك أبي وقهقه رفاقه بصوت عال. أحسست بخجل لأني اعتقدت أني أتحدث بجدية ولم أقل نكتة، وصار أبي يردد هذه الحادثة لكل من يزورنا كما يتباهى عادة الآباء بطرف أطفالهم. كان وقتها عمري 6 سنوات، وكنت متأكدا أني لم قل شيئا يسبب الضحك. من الواضح فترتها أني كنت أستمع لأخبار حرب الـ67 . ويبدو أن الأمور اختلطت علي، غير أن هذه اللحظة ربما تشكل اصطدامي الأول بأحداث التاريخ، وربما الضحك الذي أحاط بها ما جعلني أكتب قصيدة بعد عقود: "مضحك هذا التاريخ/ الواثق من أوثانه/ يتبختر في المكتبات/ وفي أشداق المعلمين.. مضحك/ مذ كانت أمجاده المكتوبة على السبورة السوداء/ تحيلها إسفنجة إلى غبار.

ضمن فلسفة التاريخ، واقتداءً بفلسفة العلم وطابعها السردي، أكد العديد من الفلاسفة أنه لكي تفهم الأفعال البشرية والأحداث في الماضي عليك أن تسرد قصة متساوقة عنها، وبالطبع كأي سرد لن يخلو من الخيال والحدس والانحياز كي يكون جاذبا، ما أدى ببعض "فلاسفة التاريخ الذين حللوا تواريخ أوربا في القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم هيجل يذهبون إلى أن التاريخ أعمال رومانسية، وكوميدية، وتراجيدية، وساخرة "1
وهذا الانتباه لروح التاريخ الملحمية المتواطئة مع فتنة إعمال المخيلة البشرية، كان يواسيني كلما تذكرت الضحك الذي أحاط بمحاولة تعبيري عن حرب الـ 67 التي كانت نتائجها التراجيدية ليست في معزل عن شحنتها الكوميدية التي انعكست في كثير من النكت السياسية. ما كان يُضحك هو قولي أن اليهود وإسرائيل تعاركوا أو تحاربوا، بدل أن أقول العرب واليهود. هل ثمة ما يُضحك فيما قلته ببراءة؟ وهل حين أقول الآن ضمن التاريخ الذي نعيشه ساعة بساعة، أن ليبيا تعاركت مع الليبيين أمر مضحك؟. قد يكون كذلك لكنه حقيقة في الوقت نفسه، وحتى حين أقول (حوار ليبي ليبي) ألا يبدو الأمر مضحكا؟ لأنه ما كان يلزم أن يكون جزءا من تاريخ بلد تخلص حالا من حكم الاستبداد ليدخل حروبا يصعب على الجميع تخيل أسباب منطقية لها. كنا في حاجة فعلا للحوار، ولكن حوار ليبي. وليس حوارا (ليبي/ ليبي) .

نُحيل كلما يحدث الآن في ليبيا إلى ما يسمى يقظة التاريخ الذي عبرنا عنها بأننا نعيشها ولا نقرأ عنها، أو بمعنى أن التاريخ تحرك في هذا المنطقة التي عانت من الجمود الزمني لفترة طويلة، أو كما يعبر عنها غالبا (كانت خارج التاريخ)، وهي تعبيرات مشبوهة حين نربط التاريخ فقط بالأحداث الكبرى، وبالتالي نعيد طرح السؤال: هل كنا خارج التاريخ فعلا؟ وهل ثمة حقب لا تُؤرَّخ في فترات الأمم الجامدة؟ أو هل ثمة نهاية للتاريخ فعلا؟

ثار جدل واسع بين أنصار وخصوم (السردانية) في التاريخ من فلاسفة ومؤرخين، لكن البحث التاريخي الأكاديمي في العصور الحديثة ابتعد عن اختزال التاريخ في الأحداث السياسية صوب تحليلات اجتماعية وثقافية واقتصادية للماضي البشري: "فيما ارتبط السرد بالتركيز على أعمال الملوك والباباوات والجنرالات الذي يفترض أن الزمن قد عفا عنه. وقد اعتبر البعض (مثال المؤرّخ الفرنسي فرنارد برودل) هذه الأعمال مجرّد تموجات سطحية مقارنة بالتيارات الأعمق والأبطأ حركةً للتغيّر الاجتماعي والاقتصادي. ومناهج ومفاهيم العلوم الاجتماعية، وليس فن سرد القصص، هي التي يجب على المؤرّخين التعويل عليها."2 .

يدرك الآن من يقودون الحوار الليبي الليبي (بعد أن تعارك الليبيون مع الليبيين!) أنهم يدونون فصلا من التاريخ (بعضهم لا يدرك بالطبع، لأنه لولا قناعتهم بأن التاريخ هو بحجم أعمارهم لما تورطوا في الاستسلام لأهواء ومصالح شخصية تنتهي باستخراج شهادات وفاتهم، وهذا ما تعنيه "نهاية التاريخ" بالنسبة لهم). ولهذا السبب كان من المنصف أن نعالج هذا الزهايمر المستفحل، بتذكيرهم مِرارا بأحداث التاريخ التي وضعت ليبيا على الخارطة كدولة وطنية مستقلة ومرحلة تأسيس هذا الكيان الذي عاث فيه بعضهم تمزيقا دون أن نوغل بعيدا في التاريخ، لأن ما نُذكِّر به تاريخ آباء وأجداد بيولوجيين وقريبين جدا، دون أن نغفل الحبكة الرومانسية التي امتزجت مع الوقائع، ولكن، لأن التاريخ يحدد نفسه ويغربل سرديته مع ما يترتب عنه ويمكث، فإن نتائج أولئك المؤسسين كانت جلية وعايشناها واستطعمناها وجُرحنا من بعض حوافها الحادة وتألمنا، غير أن الناتج العام كانت دولة وطنية مستقلة لأول مرة، ومتحدة دستوريا بعد فترة قصيرة، وتلك الدولة نُزعت من بين أنياب القوى الكبرى الطامعة التي حاولت أن تعرقل استقلال ليبيا تحت ذريعة أنها مازالت في حاجة للوصاية ولا مقومات لها كي تستقل، في ظل استعارة تاريخية دارجة تتعلق بخطورة حرق المراحل التي تشبه انسلاخا قسريا ليرقة فراشة قبل النضج فتموت، لكن ما حدث أن الفراشة الليبية حلقت بألوان علم وطني ونشيد ودولة جهز دستورها قبل حتى أن يصدر قرار استقلالها، ركزت اهتمامها الأولي على التعليم والتنمية البشرية، وبنت مشروع نهضتها على الانفتاح على العالم. وحين سُد هذا الأفق بعد تغيير 69 دخلنا من جديد في نفق شاحب الرؤية، وعلاقات تتشكل ارتجاليا دون (عقد اجتماعي) ينظمها، ومع هذا الانجراف نحو المجهول وحالة الاحتقان التي بلغت مداها، استلزم منطق التاريخ تمردا شعبيا أو ثورة لكي ينعش بها حركة وسردية هذا الجزء من العالم، وما جعل بعض المراقبين يتفاجأون بهذه الثورات في المنطقة هي نظرتهم الكلاسيكية لمفهوم التاريخ، أو تصورهم أن التاريخ لا يحركه إلا السياسيون "الملوك والبابوات والجنرالات" وإغفالهم للرؤية الحديثة للتاريخ التي ترى أن هذا المنظور التقليدي لا يشكل في الواقع سوى تموجات سطحية لتيارات اجتماعية واقتصادية دافقة بقوة في العمق. هي نفسها التيارات التي كانت وراء ظاهرة الربيع العربي وجل الثورات في التاريخ.

لذلك على المتصدرين الآن للمشهد الليبي (من أصبح نجاح الحوار أو فشله رهنا بهم حتى الآن) أن يدركوا أن الفرصة متاحة لهم لصناعة التاريخ، وأن يدركوا في الوقت نفسه أنهم من الممكن أن يكونوا نفاية التاريخ حين يتحرك عمقه الاجتماعي والاقتصادي ويطيح بهم في مزبلته مثلما حدث لانتهازيين وطغاة أقوى منهم بكثير.

1،2 قاموس كيمبردج للفلسفة، الطبعة الثانية. إعداد فريق دولي مؤلف من 440 مساهما. تحرير روبرت أودي. ترجمة نجيب الحصادي. قيد الطبع.