Atwasat

وجه آخر للعفو

الهادي بوحمرة الأحد 15 نوفمبر 2020, 12:55 مساء
الهادي بوحمرة

هناك عدة مسارات تبدو آمنة، ويظهر أن هدفها السلم والوئام، لكنها تنتهي، وفق ما تشهد به تجارب مقارنة، إلى عكس ما كان من مقاصد، وما حُدد من غايات. ومن ذلك العدول عن سبيل كشف الحقيقة وبناء الذاكرة الوطنية والمحاسبة والمساءلة، إلى سبيل العفو وتجاوز الماضي، فالعفو كما هو تغاضٍ عن الجناة، هو تجاوزٌ لمعاناة الضحايا، وكما هو تسامحٌ مع الجاني، هو تساهلٌ في حق المجني عليهم، وكما يمكن النظر إليه من وجهٍ على أنه إحسان، هو من وجهٍ آخر إساءة، ومع ما يكون في ظاهره من رحمة، يمكن أن يكون في باطنه العذاب، فالرأفة بالجاني قد تحمل معها قسوة في شأن المجني عليه، واللين والرفق بالفاعل قد يفضي إلى طغيان على مشاعر وحقوق المفعول به.

فالعفو السابق لفحص الوقائع، وتحديد المسؤوليات، وسماع الضحايا، وإرجاع ما اكتسب الفاعلون من جرائمهم، هو حماية للجناة من القانون بالقانون، ومنعٌ للمجني عليهم بالقانون من التمسك بالقانون، ففي مقابل المستفيدين الذين يضفي عليهم قانون العفو حماية، ويحول دون تحولهم إلى محكومين، هناك متضررون، يجردهم القانون نفسه منها، ويمنعهم من علاج أو تخفيف آلامهم برؤية من يفترض أنهم فاعلون في قبضة العدالة، ولأن النفع يعود على فئة يفترض ارتكابها لجرائم، والضرر يلحق بفئة وقعت ضحية لها، فإن هذا القانون يجعل الضحية ضحية لمرتين، الأولى بفعل الخارجين عن القانون، والثانية بفعل القانون، وهو بذلك عفوٌ لا يحمل فضيلة، ولا يحقق أمنًا، ولا يفتح سبيلًا للسلام والاستقرار، ولا يمكن معه أن تستقيم الأمور، وأن تمضي حال البلاد معه إلى الأفضل.

إذ لا يمكن للنفس البشرية أن تجبر على نسيان أحداث جسام؛ كقتل المعتقلين، وتدمير الممتلكات، وتهجير السكان، والحرمان من الحقوق على الهوية، وإفراغ خزائن الدولة، ولا يمكن لها أن تتخلص من آلامها، وتقبل بتطهير مقترفيها بجرة قلمٍ من السلطة.

صحيح أن الوقت قد لا يكون ملائمًا، وأن القضاء لا يكون قادرًا، إلا أن ذلك يوجب الانتظار حتى تتغير الحال، وتكون الظروف مناسبة لفتح الملفات، وملاحقة الفاعلين، واستيفاء حق المجتمع في العدالة، وإشباع حاجة المظلوم من الشعور بها، لا أن يكون ذلك مبررًا لتبييض الجناة، وطي صفحة ما اقترفوه، والنجاة بما كسبوه.

خطورة العفو المجاني دون فحص وإقرار وندم وتصالح مع الضحايا لا تتأتى فقط من التمكين للجناة، ومن غياب ردعهم عن التكرار، وفتح الطريق لظهورهم على الناس من جديد، بل تتأتى -أيضًا- من آثارها على المجني عليهم، فدولة لا تنصف المظلومين، وتمنع بالعفو رد الاعتبار لهم والاعتراف بهم كضحايا، وتفصل بين ما هو أخلاقي وما هو قانوني، هي دولة لا تدعم شعور الانتماء إليها، ولا تدفع الناس للحفاظ عليها، ولا يمكن أن توصف إلا بالظالمة وقوانينها بالجائرة، فما حجب العدالة بقانونٍ للعفو إلا تحصين للظالم والفاسد، ودفع للضحية للبحث عن مسارب أخرى؛ لاستيفاء حقه في القصاص والتشفي، وبهذا فهو عفوٌ لا يولد صفحًا، وبغياب الصفح تنتج المخاطر، فمع خطر جناة يتركون دون عقاب، هناك خطر مجني عليهم يتركون بلا إرضاء وتعويض.

ودون بيان حقيقة ما وقع من مظالم، وبناء ذاكرة وطنية محددة المعالم، قد يتعدد ما يتناقله الأفراد والجماعات من روايات، وتزداد وراء حاجز العفو في الذاكرة الأحداث جسامة، وتتحول الشبهات إلى أدلة، والشكوك إلى حقيقة، والمشتبه فيهم إلى مجرمين، ويرى الضحايا في أنفسهم ضحايا ليسوا ككل الضحايا، وفي الفاعلين مجرمين ليسوا ككل المجرمين، ذلك أن منع الفحص والتوثيق بقانون العفو يفتح الباب على مصراعيه لأن يذهب الضحية بمظلوميته إلى الحد الذي يريد، وأن يخفي ما يكون منه من أخطاء، وأن يضخم ما ينسب منها إلى خصومه، وأن يشوه الحقائق، ويخلط الأوراق، ويستغل العواطف، ويندفع لاستغلال مظلوميته لحصد المكاسب على حساب الجميع، ويتحول الثمن الذي كان يجب دفعه من أفراد إلى أثمانٍ تدفع من مكونٍ من المكونات أو من كل المكونات. ويُحمل المجتمع؛ بما اقترفته الدولة من عفو جائر، أوزارًا ما كان عليه أن يحملها، ويحصد نتائج كان بالإمكان عن طريق العدالة أن يتجنبها.