Atwasat

ذكريات عيون الخيل

سالم الكبتي الأربعاء 11 نوفمبر 2020, 02:37 صباحا
سالم الكبتي

بلاد شنقيط. عيون الخيل كما هو تفسيرها القديم. الصحراء المترامية والنوق السارحة. وجمر نيران السمر بين المضارب في وجه نسيم الليل. ومحاضر تحفيظ كتاب الله الكريم. وحفيف الريح والنخل. والغناء الحساني والربابة والشعر. أضحت تلك البلاد.. موريتانيا عام 1899. أصول سكانها من هناك.. من الجزيرة العربية. قحطان وعبس وغيرهم. عانت من فرنسا الكثير. تخلفت ونهضت. ونالت استقلالها وصارت دولة في نوفمبر 1960. غضب المغرب. لكن الأمر انقشع وزال بالاعتراف والعلاقات الجديدة. بلاد المور. الساحل والجيران. السنغال وغينيا. ومالي. وعلامات فرنسا التي ظلت مزعجة في إفريقيا. بقايا مسامير جحا المتعددة!

محمد عالي شريف.. من شباب موريتانيا. عاصر الاحتلال ودرس في دياره وجلس في جامعاته ومقاعد مقاهيه على السين. كان قريبا من الرئيس المختار ولد داده وأحد معاونيه المخلصين. ومبعوثه الخاص إلى رؤوساء وملوك العالم على الدوام. أصدر ذكرياته ومعايشته للأحداث في فترة من الأعوام في ذلك البلد الموريتاني عند أعتاب المحيط. نشرته الساقي في بيروت عام 2019.

يكشف في هذا الكتاب الأحداث الفعلية المليئة بالمرارة في أحيان كثيرة التي اكتنفت لحظات تسيير ملفات كبرى ومهمة متعلقة بالتعايش بين السكان والتعريب وحرب الصحراء والانقلاب العسكري الذي أطاح بولد داده الذي قاده ولد السالك في العاشر من يوليو 1978. كلهم أولاد الأمس واليوم والغد هناك لتستمر انقلابات أخرى حتى تستقر موريتانيا البلد القاصي البعيد. ثم التيارات الدينية الناشئة في المنطقة وتداعياتها التي نشأت وتمددت هنا وهناك.

يسرد شريف في هذه الذكريات التي يحملها كتابه بين السطور ويحلل ويسلط الأضواء على مرحلة الاستعمار والصعود المذهل للقوتين امريكا والاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة والمواجهات بينهما وتأثير ذلك على دول العالم وانهيار ذلك الاتحاد في التسعينيات ولم يعد قطبا في مواجهة خصمه المزمن وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث الذي مايزال ثالثا!

تحدث عن كثير من الدول والأنظمة باستفاضة وباختصار. ونظرا لأن ليبيا الملكية لم تعترف بموريتانيا في ذلك الوقت، فإنه يخلط أحيانا في سرده الذي يأتي مشوشا وغائما في بعض الثنايا. يقول ضمن مايكتب: (وصل الملازم أول معمر القذافي إلى السلطة عن طريق القوة.. لا انقلاب على دولة ذات كيان واحد لأن المملكة السنوسية كانت في الحقيقة مقسمة وضعيفة تحت حكم الملك إدريس الأول إذ تتكون من ثلاث مناطق هي طرابلس وبرقة والفزان وكلها ظلت بعد تحررها من الاحتلال الإيطالي تتمتع باستقلال حقيقي. والقذافي حينذاك لم يكد يبلغ الثلاثين من عمره وسرعان مافرض نفسه قائدا لحكم عسكري مدني تحذوه القومية العربية وفق المعنى المفهوم من هذه العبارة عند جمال عبدالناصر ونشرات الأخبار التي تبثها إذاعة القاهرة. لم يرث الحكم الجديد إدارة ولا أي حكومة منظمة إلا كيانات قبلية يجمعها الولاء للملك إدريس وهو شخصية دينية صوفية لايجمع بين المحيطين به إلا الأتاوات الشحيحة المدفوعة إلى ليبيا من شركات نفط أجنبية تدير وتستغل الموارد تحت وصاية غير معلنة لمصلحة الشركات البريطانية والأمريكية).

ويشير عالي شريف أيضا إلى أن الإطاحة بالمملكة الليبية كان فرصة لموريتانيا للاعتراف بالنظام الجديد الذي لابد أن يعترف فورا بموريتانيا دولة عربية مستقلة وذات سيادة. استبقت الأحداث والاعتراف و أوفدت موريتانيا وفدا على الفور والتقى السلطة الجديدة وحظي باستقبال حار من العقيد القذافي نفسه وعندئذ كما يؤكد انطلقت علاقات ثنائية وصفها بالممتازة. ونشأ عنها منح ليبيا لموريتانيا مساعدة مالية كبيرة عام 1970 وأنشأت المصرف العربي الليبي الموريتاني في نواق الشط ومولت شركات كبيرة في ميدان الصيد الصناعي. وصلت الكثير من الأيدي العاملة الموريتانية للعمل والطلبة للدراسة في الكليات الليبية.

وفي جانب آخر لهذه العلاقات (الممتازة) لعبت موريتانيا من جهتها (دورا خفيا) في تسوية النزاعات التي ظلت تشتعل بين ليبيا والبلدان الأفريقية، بخاصة تشاد والنيجر الواقعتين لصق الحدود الجنوبية لليبيا فيما قامت بدور الوسيط بين تونس وليبيا بطلب منهما في تسوية النزاع حول ترسيم الحدود البحرية. غير أن المصالح لم تستمر. ظلت (ممتازة) الى 1976. أصابها الضعف. توترت العلاقات بين البلدين منذ اندلاع حرب الصحراء المغربية. اعترفت ليبيا بالبوليساريو. ودعمت الجمهورية الوليدة فوق التلال والصحارى. انقطعت العلاقات إلى يوم الانقلاب على ولد داده في يوليو 1978.

المبادئ على الدوام تنهار وتذوب، مثل الثلج، أمام المصالح المتحركة. ليس هناك ثبات أو استقرار في السياسة في منظور دنيا العروبة.. والكفاح المستمر. ذكريات شريف تداعت من عيون الخيل. وسجل ما عاصره مع رئيسه ولد داده الذي رحل بعد أن دون مذكراته وذكرياته هو الآخر بعنوان موريتانيا في دائرة التحديات. غير أن تحليل شريف في معرفته بظروف ليبيا أيام الاستقلال ومصاعب نشوء الدولة لم يكن موفقا في أغلبه. سيطرت عليه مسألة عدم اعتراف ليبيا الملكية ببلاده، فظل يدعوها المملكة السنوسية. ثم الليبية. لا يعرف بهذا الشكل ليبيا تماما. يجهلها.. وكان ماكان. أعني إذا كان الموفدون الرسميون والموظفون الكبار يجهلون الحقائق والتفاصيل الصغيرة لأية دولة.. فما الذي استطاعت أن تفعله المصارف الخارجية المشتركة وشركات صيد السمك والأسفنج.. والصدى الضائع لألحان الربابة عند حواف الصحراء!!