Atwasat

حان الوقت لشفاء أميركا

سالم العوكلي الثلاثاء 10 نوفمبر 2020, 12:44 صباحا
سالم العوكلي

وأنا أتابع هذا الكرنفال الإعلامي المصاحب لماراثون الانتخابات الأمريكية، لفت نظري المتحدثون العرب الأمريكان، أو بالأحرى الأمريكان العرب، الذين عاشوا معظم أعمارهم في الولايات المتحدة وأصبحوا جزءا من مكوناتها السياسية، وتغير فيهم كل شيء عدا ذهنيتهم العربية الفصيحة وهم يحللون هذا السباق الرئاسي. ما يجعلني أطرح سؤالا طالما حيرني فيما يخص العوامل الأكثر تأثيراً في تكوين عقل الإنسان: ما إذا كان الجينة والمنشأ أكثر تأثيرا، أم البيئة الحاضنة؟. وأقصد هنا الجينة الثقافية وليست البيولوجية حتى لا أتهم بالعنصرية.

ولن أعمم فيما يخص المحللين السياسيين العرب، ولكن أغلب من تابعت مداخلاتهم في قنوات مختلفة قبل وخلال هذا الماراثون، كانوا يدافعون عن الحزب الجمهوري وترامب بتعصب مبالغ فيه لدرجة التزلف الفاضح، يشبه تعصب الحاشية التي تحيط بدكتاتور عربي أصيل. مع أن ترامب و (قاعدته الصلبة) من البيض والإنجيليين المتعصبين لا يرون في هؤلاء المهاجرين الشرق أوسطيين إلا طفيليات عالقة بالهوية (الصلبة) لشعب الولايات المتحدة الأبيض، دون أن يغفلوا بالطبع بعض فوائد الطفيليات.

ما لاحظته أن المحللين الأمريكان الطاعنين في الهوية، الديمقراطيين والجمهوريين، يتحدثون في مداخلاتهم بهدوء وعقلانية، وكلٌ يدافع عن وجهة نظره دون تعصب أو انفعال أو توتر أو تزلف، وينتقدون سياسات أحزابهم بموضوعية وبشكل علمي، وكثيرا ما أخرج من مداخلاتهم بمزيد من المعرفة والفائدة، وبمجرد أن أتابع ضيوفا عربا في إحدى القنوات، أحس كأني في برنامج الاتجاه المعاكس في قناة الجزيرة.

على غرار ترامب الذي يذكرنا بحكام العالم الثالث، الترامبيون يتهمون الديمقراطيين بتزوير الانتخابات، وحجتهم أنهم ناموا مطمئنين و (زعيمهم) متقدم في ولايات حاسمة، وحين استيقظوا وجدوا (عدوهم) بايدن متقدما، محيلين هذا التبدل، وفق لوثة تلاحقهم من أوطانهم الأصلية، بعملية تزوير هائلة حدثت في جنح الليل.

أنا في قرية صغيرة في شرق ليبيا، لم أطأ أرض الولايات المتحدة ولا حتى أوروبا، أطأ الآن عقدي السابع ولم أشارك أبدا في انتخابات رئاسية، لكني لا أستغرب هذا ولا أطرح أمامه أداة استفهام ولا خلفه علامة تعجب. فترامب هو الذي طلب من قاعدته الصلبة أن تقترع مباشرة في اليوم المحدد للانتخابات مُصعِّدا من غطرسته حيال فيروس كيوفيد 19 أو ما يسميه بخبثٍ الفيروس الصيني، بينما الديمقراطيون، في صدد استثمارهم لسوء إدارة ترامب لجائحة كورونا، دعوا قاعدتهم للانتخاب المبكر واستخدام البريد، وهذه الآلية هي التي أطلقت موجة تسونامي زرقاء تجتاح الولايات التي بدأت تحمرُّ في البداية لأن معظم المصوتين مبكرا من مؤيدي بايدن. سخر ترامب من كيوفيد 19 وتفاخر بانتصاره عليه في المستشفى العسكري فهزمه الفيروس في الانتخابات وأخرجه من البيت الأبيض، ولا يحدث هذا إلا في أمريكا التي قسمتها كورونا لدرجة أنه إذا رأيت شخصا في الشارع يرتدي كمامة فهو ديمقراطي ومن لا يرتدي كمامة فهو جمهوري، ما جعل بايدن يقول "حان الوقت لشفاء أميركا" ويقصد الشفاء من فيروس كورونا وفيروس اليمين العنصري.

ربما ما يعجب بعض المحللين العرب في ترامب هو كونه عمل بنشاط منقطع النظير لتحويل أميركا إلى دولة عالم ثالثية، ما يخفف عنهم الغربة ويجعلهم أكثر ألفة مع المكان، وكأن لسان حالهم يقول "وطني لو شُغلت بالخُلد عنه .". فترامب الذي جاء محمولا على شعار (أميركا عظيمة) ها هو يتركها بعد 4 سنوات مصابة بلوثة من لوثات العالم الثالث: عبر تغريداته المجنونة التي تذكرنا بحكامنا، وتضخم الذات وجنون العظمة، وعبر اتهام نظامها الديمقراطي العريق بالتزوير والفساد، ورفضه المسبق لنتائج الانتخابات، وشخصنته لكل الخلافات مع خصومه، وهجومه المستمر على حرية التعبير ومواقع التواصل، وبنائه للجدران العازلة، وصولا إلى مطالبته العالم بأن يراقب الانتخابات الأمريكية في خطابه الذي ألقاه يوم 5 نوفمبر، والذي قال فيه حرفيا "إن الديمقراطيين يذهبون ليلا للتفتيش عن أوراق الاقتراع، ووجدوها ووضعوها في صناديق بايدن". ليعقبه مباشرة خطاب ابنه في تجمع جمهوري يحرض ــ بشكل غير مباشر ــ متعصبي الحزب على التدخل قائلاً أنه سيدافع عن رئاسة والده حتى الموت، مثلما قال ترامب في خطاب سابق لميليشيات الحزب الجمهوري المسلحة: كونوا جاهزين. ومشهد خطابي الأب والابن يُذكّرني بمشهد عالم ثالتي قريب.

لأول مرة نرى في الميادين الأمريكية متظاهرين يحملون لافتات مكتوبا عليها (ارحل) و (انتهت اللعبة) وهي نفسها اللافتات التي حُمِلت في ميادين الربيع العربي ضد حكام طغاة يرفضون مغادرة السلطة، لكن يظل فارق جوهري مفاده: إن المعارضة في العالم الثالث هي التي تتهم عادة الرئيس وحكومته بالتزوير، بينما، في حالة أميركا، الرئيس هو الذي يتهم المعارضة بالتزوير.

خسر ترامب، ومعه خسر كل اليمين المنتعش في العالم، وفاز الوَسَطي بايدن الذي قال في خطاب فوزه "نحن لا نسعى لعرض مَثَل على قوتنا بل لعرض قوة مَثَلِنا" ما سيطرح أسئلة عن ملفات عالقة في الشرق الأوسط ومدى اختبارها لقوة المَثَل:
هل ستعود أميركا إلى كل الاتفاقيات والمعاهدات والمؤسسات التي انسحبت منها؟. هل ستعود السفارة الأمريكية إلى تل أبيب؟. ما مصير العقوبات على سوريا وروسيا، ومصير صفقة القرن وضغوط التطبيع مع الكيان الصهيوني التي قادها البيت الأبيض؟. هل ستخرج السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب التي وضعها فيها الحكم الأخواني السابق، دون ابتزاز من البيت الأبيض أو إرغامها على التطبيع مع الكيان الصهيوني؟.هل ستعود ملفات انتهاك الحريات وحقوق الإنسان في كل الدول العربية إلى طاولة المكتب البيضاوي؟. وسؤال آخر ذاتي جدا ولا يتعلق بالشرق: هل سيعتذر بايدن بالنيابة عن البيت البيض عن إهانة ترامب للممثلة الساحرة ميريل ستريب، حين وصفها في إحدى تغريداته بأنها "ممثلة هزيلة مبالغ في تقديرها" بعد أن نددت بسخريته من صحفي من ذوي الاحتياجات الخاصة؟.ويبقى السؤال الكوني الأهم الذي يطرحه أطفال العالم وشبابه القلقون على مصير الكوكب: هل ستعود الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ؟.

أما السؤال الذي لا أتوقع إجابة له فهو: هل سيستيقظ العرب الترامبيون؛ الذين لاذوا بالليبرالية الأمريكية هروبا من نظمهم اليمينية المحافظة، من خَدَر وقوفهم ضد التيار الليبرالي في الولايات المتحدة حين انخرطوا في تأييد حملة ترامب الذي أعلن سياسته ومكبوته العنصري تجاه المهاجرين والملونين، ووصف أفريقيا بالقذارة، وهندس صفقة القرن الإنجيلية لتصفية الحق الفلسطيني، وأوقف الدعم لكثير من المؤسسات والمنظمات الإنسانية والثقافية والبيئية.؟!.

رغم أن الدولار يتحكم في سعر رغيفي إلا أنه لا شيء يعنيني في هذه الأمة هذا الماراثون الذي خسره اليمبن، ولكن ما يحدد موقفي من مثل هذه الظواهر مبدأ أخلاقي يتعلق بمحتواها العنصري البغيض، وبغض النظر عن كل شيء فإن الحزب الديمقراطي أوصل إلى البيت الأبيض أول رئيس من أصول أفريقية، ورشح لأول مرة امرأة للرئاسة، وأوصل لأول مرة امرأة من أصول أفريقية وهندية كأول نائبة للرئيس، وهذا يكفي لنحترمه.
وأخيرا، من المهم ألا ننسى أن الديمقراطية أيضا من الممكن أن تأتي بأحمق على رأس أعلى سلطة، لكن الأهم أن الجهاز الديمقراطي المتين محصن ضد أن يفعل هذا الأحمق كل ما يهذي به، وقادر على إخراجه من الباب الذي دخل منه.