Atwasat

أسباب للتشكيك في استدامة السلام بليبيا

حافظ الغويل الإثنين 09 نوفمبر 2020, 01:29 مساء
حافظ الغويل

لعلها من الباكر جدا المباهج التي تعم ليبيا بحلول السلام، في الوقت الذي تمتحن فيه السياسة والجغرافيا الليبية هدنة صعبة المنال تأتي في أعقاب إخفاق هجوم شنه الجيش الوطني الليبي، الذي لا يحب أن نسميه كذلك، ضد مركز حكومة الوفاق الضعيفة في طرابلس. صحيح أن مخرجات اتفاق جنيف العسكري أكدت بجلاء عدم معقولية أي تصور عسكري لحل الأزمة التي ما برحت تمزق البلد لعقد طويل، إلا أن طول عمر الصراع نفسه وتهافت المجموعات المتنافسة المسلحة تسليحا جيدا لتعزيز سيطرتها في الجغرافيا التي استطاعت تأمينها، من شأنه كلما امتد به الأجل أن يزيد من فرص التقسيم السياسي بدلا من أن يصطنع الحيل لتصفيتها. ذلك أن الجانبين لا يتوفران على الآلة لتوحيد البلاد عنوة، بل وتبين اليوم احتمال إضرار المسارعة إلى الحديد بالمكاسب المحققة عوضا عن زيادتها.

ففي المشهد الليبي المنقسم يبدو الانقسام أعمق إذا نظرنا إلى تباين مصالح ومطامح الأفراد والجماعات في ليبيا إلى توظيف هذا التنافس ذاته في مخططات جيوبوليتيكية تديرها من أصقاع بعيدة كيانات لا تبدي ميلا إلى الارتداع أو المهادنة. وهذا يبدد كل شك في أن أي سعي يصرف للتوفيق بين المطالب المتناقضة وعدم التزام القوى المتورطة في النزاع قد يثمر بدون مشقة كبيرة. فأي دفع بالحل من جهة معينة قد يفضي إلى حرب أهلية مدمرة لم يخبُ لهيبها بعد، وعدم إحداث تقدم يعني فقط تأبيد الكآبة الحالية.

ومما يطمئن له البال أن بارونات السياسة فضلوا طريق الحوار على سياسة الأرض المحروقة لتقاسم السلطة وتجاوز الاختلافات التي هي اختلافات فصائل بالدرجة الأولى. والظاهر أن العوامل التي من شأنها إنعاش هذا الجو القبض على أزمة الأمن القومي، وتقاسم موارد البلاد الطبيعية، والإبقاء على بل وشرعنة المعسكرات الضالعة في النزاع. ولا شك في أن احتمال عودة حليمة إلى عادتها القديمة يظل قويا ولو تصافح الإخوة الأعداء.
ويمكن أن تخفف التصريحات، والاتفاقات، والمواثيق، والانسجام الظاهر والتودد المصطنع بين سلطتي طبرق وطرابلس حدة الالتهاب، غير أن المليشيات والمجموعات العدائية في كلا المعسكرين لا بد أن تجد في المصالحة دافعا يحث على الكسب، كسب السلم. والحق أن كسب السلم حين لا يسمن قد يزين الحرب لنظر المتكسبين.

ولا يزال القائد القوي في الشرق، خليفة حفتر، فضلا عن ضلوعه على نحو خاص في الصراع، يتمتع بسلطانه القديم، على الرغم من تراجع الدعم له. ولا يزال يطغى بظله على عقيلة صالح الشخصية السياسية المدعومة دوليا، التي تفتقر إلى الدعم المحلي الكافي، ووجود خصوم له حتى في المجلس النيابي في طبرق.

وإن لم يكفِ هذا كله تعقيدا للمشهد، فهاك مشروع صناعة السلام الأممي الذي يقصر الاهتمام على الانقسام بين الشرق والغرب، مخفقا في استجلاء الصورة الكاملة للحل المستدام والسلام العادل. وإذ قد يصل الحزبان المتخاصمان إلى اتفاق في المفاوضات، فإن مقررات أي توافق تصوغها تلك الأقلية المدعوة لجلسات الحوار لتقاسم السلطة لن يعنى بها المواطن الليبي، الذي ألهي بنية مبيتة عن الاكتراث بالحادث السياسي.
ومن سوء الطالع أن ولو فرضنا جدلا انتهاء النخبة إلى اتفاق سياسي، فسوف يفتقر ذلك الاتفاق إلى الشرعية المنبثقة من الأسفل، من بلديات مقيدة وإن لم تعوزها الفاعلية، مما تبقى من مجتمع مدني مهدد بأن يوظف لتحقيق مآرب سياسية، تلك الشرعية اللازمة لتثبيت التسويات السياسية. فإذا ما اقتصر التفاوض على شخصيات مصطفاة، والحال كذلك، فإن عقائر منتقصة وأصوات مفرقة سوف تسمع من القاع، وسوف تجد أذانا صاغية، وسوف تعرقل، كما عرقلت من قبلُ، أية تسوية مستقبلية.

نريد أن نقول أنه وفيما يجوز لنا الترحيب باتفاق وقف إطلاق النار، وبالمحادثات الرفيعة المستوى، وبمراجعة حسابات البنك المركزي، فضلا عن رفع الحصار على الموارد النفطية، فلا يزال الوقت مبكرا للاستبشار بانتقال سلس لم يحقق له ميلاد بعدُ.

وفيما تتسع الهوة بين الصف الأعلى، الذي يريد تأمين حكمه وضمان استمراره، وفاسدين في الوسط يبتغون إطالة أمد المراوحة لأنهم يفيدون من اقتصاد الحرب أعظم الفائدة، وكادحين مطحونين ضجروا من الفساد والفوضى والنزاع الذي لا تلوح نهاية له، يجتاح الوباء البلد، والبلديات عاجزة عن مواكبة التحدي بسبب نقص التمويل من الأجهزة الحكومية القاصرة قصورا فاضحا. ولم يوفق المبعوثون الأمميون خلال عقد طويل إلى معالجة الجانب الاقتصادي من النزاع، في صبهم العناية الكاملة على الجوانب العسكرية والسياسية. وكان أخلق بهم أن يفطنوا إلى المضاعفات الخطيرة للفوضى والانقسام على الوضع الاقتصادي وعلى المؤسسات، وعلى الاستقرار في المقام الأول.

كنا نريد أن نقول أن التفاؤل طيب ومقبول، غير أن أي حديث عن تسوية سياسية ثابتة لا نعده معقولا إذا تم التغاضي عن إجراء إصلاحات جوهرية للأجسام غير النزيهة والقاصرة.

ترجمة: عبد العزيز المغربي