Atwasat

مع بوخمادة الإنسان

عبدالله الغرياني الإثنين 09 نوفمبر 2020, 01:26 مساء
عبدالله الغرياني

أكتب هذه المقالة بهدف أن أوضح من خلالها جانبا من أهم جوانب الفريق ونيس بوخمادة، وتبدأ بزيارته لي في عمان الأردن بمستشفى الإسراء حيث كان يعالج ابنه "علي" على ساقه بسبب رصاصة أطلقها خاطفوه عليه قبل إطلاق سراحه. وكان هو نفسه يستعد لإجراء عملية جراحية على القلب. دخل عليَّ وفي يده باقة ورد فغمرتني الفرحة كثيراً لرؤيته. وبعد السلام واطمئنانه تبادلنا الحديث في حضور عدد من إخوتي وأبناء بوخمادة، شرحت له الوضع الصحي وتطوراته. وبعد خروج بوخمادة جلس أخي بجانبي وبعد دقائق قال لي أن ثمة ورقه أو ظرفا، وتبينا أنه ظرف يحتوي على مبلغ مالي كبير بالعملة صعبة وضعه بوخمادة أثناء وداعه بطريقة لم ينتبه إليها أحد ولم يطلب من أحد من مرافقيه بأن تنبيهي إلى ذلك. كما أنه فور خروجه من الغرفة سلم على الوالده وكررلها "بالك ناقصكم شي محتاجين لشي واذا احتجتوا أي شي بلغوني هذا ولدنا ومتخفيش عليه". بعد ذلك استمر أبناؤه يعودونني للاطمئنان عليَّ.

مرت الأيام ولم أره إلا بعد رجوعي إلى بنغازي حيث تواصل معه أخي وطلب من الفريق ونيس بأن يرسل معه دوريات لتقوم بتوصيلنا وتأمين عائلتي من مطار الأبرق إلى بنغازي لوجود شبح الإرهاب حول مدينة بنغازي وقيام الإرهابيين باختراق المدينة وتنفيذ عمليات الاستهداف. وفعلاً فور وصولي ونزولي لساحة المطار وجدت عناصر وافراد الصاعقة في انتظاري كما ودعوني آخر مرة من مطار بنينا ولم يمضِ أسبوعان إلا وكنت جالسا مع الأصدقاء وأخوتي مساءً في البيت بمنطقة البركة وتفاجأنا بدخول عسكريين علينا بالصالون، وبعدهم مباشرة دخل بوخمادة ومعه عدد من رموز الصاعقة على رأسهم مرعي الحوتي والشهيد فضل الحاسي وعدد من أبناء الفريق بوخمادة بأجواء الود والفرحة لرؤيته وقام الوالد بالترحيب به وتبادلنا الحديث وكان سعيدا برؤيتي في حالتي الصحية المتحسنة تحسنا كبيرا، مقارنةً بلقاء الأردن وأشاد بدور المجتمع المدني ونشطاء المدينة في دعم القوات الخاصة ورفع معنويات أفرادها ومساندتهم، مع إشادته بالوقفة التي كنت من المقرر أن أشارك فيها داخل جامعة بنغازي صبيحة يوم الخميس المشؤوم حيث كانت تطالب بالإفراج عن الطالب المختطف علي بوخمادة، نجل الفريق، وفي طريقي لها صباحاً انفجرت السيارة بسبب العبوة الناسفة وانتهت الزيارة بالتقاط صورة جماعيه على أمل اللقاء مره أخرى .

وعند تحرير منطقة الليثي اتصل بي نجله وقال الحاج جايك في الطريق ساعة ويكون عندك. كنت في ساحة الكيش أحتفل مع النشطاء والشارع بتحرير منطقة الليثى، أبلغت عددا من نشطاء الصف الأول بضرورة الحضور للمنزل ليكون استقبال بوخمادة استقبالا جيدا ونتشارك جميعاً الفرحة معه بتحرير الليثي. وصل الفريق بسيارة واحده وكان برفقته شاب قريبه وابنه بدون حراسات ولا موكب حماية لدرجة أني طلبت من الشباب أن يحيطوا بالسيارة حتى يغادر بوخمادة المكان، خصوصاً أن المنزل يقع على طريق رئيسية في منطقة البركة ونخشى استهداف حياة بوخمادة. وأثناء جلوسه تبادلنا النقاش وتطرقنا إلى عدة أمور حول بنغازي ومصيرها بعد التحرير، وذكريات الحراك المدني التي استداما شهورا قبل عملية الكرامة، وتحدث الفريق عن عدة نقاط أخرى. وأثناء الحديث استغللت نقاش النشطاء مع بعضهم وتكلمت معه بصوت منخفض وشكرته على مبلغ في الأردن. فضحك. وقبل تناولنا العشاء تواصل الإعلامي حسن البكوش مع ابن الفريق لإجراء مداخلة للفريق ليتحدث عن تحرير منطقة الليثي وأجريت المداخلة، ثم تناولنا العشاء وغادر المكان. وهذا من أهم الأدلة على بساطة بوخمادة وإنسانيته في وقت كان فيه جنوده وأهل بنغازي يحتفلون بتحرير أهم محاور المدينة وانشغال الجيش في الاحتفالات، تجاوز كل ذلك وقرر زيارتي ليهدي لي التحرير محاولاً مداواة جراحى العميقة التي تسببت فيها الجماعات والمليشيات الإرهابية.
وأعود إلى البداية عند تعرضي لمحاولة الاغتيال ودخولي العناية الفائقة وإجراء العمليات الجراحية الأولى استقرت حالتي نسبياً، وتقرر بمساعدة وتدخل العديد من الشخصيات وعلى رأسهم المرحوم الدكتور محمود جبريل بضرورة خروجي من بنغازي والسفر إلى لخارج حيث تم الترتيب على أن تكون الأردن المحطة الأولي للعلاج. وبعد معاناة بسبب عدم استقرار حالتي هبطت الطائرة يوم الحادي عشر من فبراير عام 2014 م . وفي وقت استقرت فيه الحاله أذن الأطباء بإمكانية سفري، لكن كانت المعضلة في من سيقوم بتأمين عملية نقلي من مركز بنغازي الطبي إلى مطار بنينا، كون عملية النقل خطيرة ويد الإرهاب التي وضعت العبوة اللاصقه ما زالت تتجول في كل مكان داخل المدينة وقادرة على استهداف سيارة الإسعاف، وهنا تدخل الفريق بوخمادة بعد اتصال الرفاق به وبتنسيق مع الغرفة الأمنية حضر جنود الصاعقة ومعهم سيارات إسعاف للتمويه وانطلق رتل كبيرة من مركز بنغازي الطبي حتى مطار بنينا ليتم وضعي بالإسعاف الطائر، وغادرت الطائرة لقاعدة الملكة علياء بالعاصمة الأردنية عمان .

وأعود للقاءات الأخرى. في أحد الأيام اتصلت بابنه للاطمئنان على الفريق والسؤال عليه ليبلغني بأن الفريق متواجد في المستشفى ولا يرغبون في أن يعلم الناس بالخبر، خوفاً على وضع المحاور ومعنويات الجنود. ذهبت إليه بالمستشفى برفقة أخي ولم نرَ أي تواجد لمظاهر أمنية أو عسكرية. رحب بنا ابنه وصعدنا للطابق الثاني وكان الوضع عاديا جداً، وكأننا في زيارة لشخص عادي، وليس الفريق بوخمادة آمر القوات الخاصة والأب روحي لأهل وشباب بنغازي. دخلنا عليه في الغرفة وأول ما رآني قال "عليش عليش اتعب في روحك" قلت له "ما عندنا إلا انت يا افندي". اطمأننت عليه وطمأنته على أن الشارع ونشطاء التيار المدني مازالوا على موقفهم في دعمه ودعم قوات الصاعقة.وعند همي بالخروج أوصي "ردوا بالكم من بنغازي انتم ظهر الجيش".

وبعد هذا اللقاء بمدة زرته في منزل اتخذه مقرا له وغرفة عمليات. استقبلنا وأثناء سلامي لاحظت وجود مسبحة أحاطها في رقبته قلت له "ما شاء الله عيساوي.!!" كون اتباع الطريقة العيساوية أكثر ناس يضعون المسبحة على رقابهم، فرد علي "لامش عيساوي ونيس خير" ضحكت وقلت له الطريقة العيساوية قال "لا هذه بركة وفاتحة خير" وجلسنا وتبادلنا الحديث وكرر لي جمله كان دائماً يكررها "أنا مش متاع سياسة". وسألني عن الوضع السياسي. حكيت معه بشكل مُفصل، وأثناء الحديث قال "رشحوني وزير دفاع ورفضت وقلتلهم أنا ملتزم بمهمه وقاعد انفذ في أوامر وأنا متاع ميدان مش حنقدر نقود أي شئ يبعدني على الميدان وجنودي اذا سيبتهم مش حيكملوا وهذي خيانة لهم ولرفاقهم إلى استشهدوا" واستغللت الزيارة ولقرب انتهاء الحديث أعطيته تقاريري الطبية وطلبت منه المساعدة أو التوسط لاستخراج جواز سفر نظراً لأني مقبل على رحلة علاجية، واستأذنت منه للمغادرة بعد حضور شخص واضح أنه كان يريده في موضوع ذي أهمية. سار معي حتى باب المنزل، وأثناء التوديع دخل المنزل الشهيد فضل الحاسي وأخذنا صورة للذكرى وقام ابنه بإخراجنا من الموقع الذي كان قريبا جداً من العمليات العسكرية .
غادرت من بعد ذلك اللقاء بمدة البلاد في أغسطس عام 2016.م وكان التواصل شبه ضعيف مع بوخمادة شخصياً نظراً لانشغاله بالحرب وبداية رحلتي العلاجية ببولندا ومن ثم ألمانيا، ولكن كنت أطمئن عليه إما من خلال أبنائه أو من خلال أخي الذي كان يتردد عليه للاطمئنان على صحته وكان الفريق ونيس بوخمادة صديقا للأسرة ولم يغب عليها في أغلب المناسبات، آخرها حضوره للمنزل للتهنئة بزواج أحد إخوتي، هذا الوفاء والإخلاص ومعاملة شعرت من خلالها أنني لست وحيداً ويبرز من بين المائات من المتضامنين والداعمين المعنويين الفريق ونيس بوخمادة آمر القوات الخاصة - الصاعقة .

الفريق ونيس بوخمادة، رحمه الله، كان إنسانا بكل ما تعنيه الكلمة وعلاقتي بالفريق ليست نادرة بل هيا علاقة تشرف بها كل إنسان عرفه وتعامل معه. فالتواضع والبساطة والتقدير والاحترام من المبادئ التي يقدسها بوخمادة، والزهد الذي يظهر في كل جوانب حياته، وأنا شخصياً ناشط مدني ولا أنتمي لمؤسسة الجيش أو القوات الخاصة ولا يربطني أي نوع من أنواع العلاقة بالفريق بوخمادة، وقبل إصابتي التقيته في لقاءات محددة وأغلبها كانت بحضور الرفاق بالتيار المدني للنقاش حول الأوضاع الأمنية في المدينة وقضايا تتعلق بالوضع العام. ولكن بعد لقاء الأردن - عمان بدأت علاقتي به تتفرع إلى الجوانب الإنسانية والمعنوية بتعاطفه ودعمه اللامحدود لي، لقناعته بأن جزءا من سبب الإصابة كان بسبب دعم الجيش والمطالبة ببناء مؤسسة عسكرية نموذجية ولاؤها للدستور والشعب تحمى البلاد وتحافظ على استقلالها ووحدة ترابها، ومن هنا أصبح بوخمادة الأب والأخ والصديق، كثير السؤال والمحبة والمودة، بوخمادة الإنسان الشجاع والوفي والعطوف والبسيط والمناصر للكادحين والمستضعفين، فقدناه اليوم وتركنا في منتصف الطريق رغم أنه ساهم وشارك في العديد من الأحداث وسجل مواقفه الحاسمة فيها ابتداءً من الوقوف أمام طغيان عساكر القذافي الذين كانوا يطلقون الرصاص على المتظاهرين أمام كتيبة الفضيل ابو عمر ونهاية بمشاركته الحاسمة والمفصلية في حرب مدينة بنغازي ودرنة على الجماعات الإرهابية المسلحة قبل عملية الكرامة وبعدها. ولكن الطريق ما زالت طويلة وما زلنا نحتاج الفريق ونيس بوخمادة وأبنائه جنود الصاعقة الذي كان شديدا عليهم في المعركة وعطوفا عليهم في الرخاء.. يمازحهم ويأكل معهم ويفترش معهم الأرض للنوم ويناديهم "تعال هنا يا ليد" و "انت اسمع تعال هنا جاي" وغيرها من مصطلحات وكلمات دارجة وبسيطة تشعر بأنه أب يقاتل بأبنائه وأن القوات الخاصة ليست معسكرا، بل اسرة واحدة والأب ونيس بوخمادة كان يحل حتى مشاكلهم العائلية ويساعدهم بقدر المستطاع ويرفع من معنوياتهم في الحرب والسلم، بوخمادة تعرض لتهميش كبير وإقصاء في أواخر حياته لأسباب عديدة اشتكى منها لعدد من الرفاق الذين كانوا يترددون عليه، رغم أنه أشار لي يوم زيارته احتفالًا بتحرير منطقة الليثي وأمام عدد من الرفاق بمنزلنا "تو ايجي وقت ويقولوا الصاعقة مقدمتش شي وينكرونا" ورددنا عليه بشكل فوري، جميعاً، بأننا لن ننسي الصاعقة ودورها. أنتم الأساس. ولكنه ظل يتخوف حتي أظهرت الأيام حقيقة تخوفه ليتعرض لتهميش كبير وتهمل القوات الخاصة - الصاعقة ويتم اقصاؤه عن المشهد العسكري. ولكنه ظل رمزا شامخا لدى أهل بنغازي وبرقة وليبيا كافة وأصبح يتنقل ويتجول بين الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم وباقي مناسباتهم وأصبحت شعبيته عريضة وكبيرة. كيف لا وهو الذي لم يغتصب أرض أحد ولم يسطُ على ممتلكات المواطنين ولم يتحول إلى مرموق بالنهب على حساب تضحيات جنوده ولم يتاجر بقضيته ..

وداعاً بوخمادة. قلبك الذي أتعبك أعلن استسلامه للموت ليخطفك منا. ليس أمامنا إلا الدعاء لله بالرحمة والمغفرة لك وأن يسكنك الجنة ويلهم أسرتك وأبناءك جميل الصبر والسلوان.