Atwasat

الوجه الآخر للهدية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 08 نوفمبر 2020, 01:42 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

ظاهرة تقديم الهدايا، ظاهرة قديمة قدم ظهور النوع الإنساني. فلقد أثبتت البقايا الأثرية أن الذكر من إنسان الكهوف كان يقدم الهدايا للإناث. وكانت هذه الهدايا تتكون من أسنان أو عظام حيوان ما، أو أحجار ذات أشكال فريدة جميلة لترتدى كعقود. بل لوحظ أن القردة أيضا لها هذا التقليد. إذ تقوم ذكور القرود بتقديم هدايا لإناثها. ولست أدري لماذا مفترض دائما أن على الذكر تقديم هدايا للأنثى؟. لماذا ليس العكس، أو بالتساوي. ربما، في ما يخص النوع الإنساني، أن الذكر هو مصدر الكسب على خلاف الأنثى. إلا أن هذا الكلام ليس مقنعا. لأنه في المجتمعات البدائية كانت مصادر الكسب مشتركة. وفي المجتمعات الحديثة أصبحت المرأة تشتغل مثل الرجل. يبدو أن الأمر يكمن في جانب آخر.

وتقديم الهدية ليس فعلا بريئا، فمقدم الهدية ينتظر دائما مقابلا ما من متلقيها. فحين أقدم هدية إلى أحد فإنني أنتظر من هذا الفعل مقابلا ما. ليس بالضرورة أن يكون ماديا. ولكن، على الأقل، أن تتعزز مكانتي لديه ويزداد وده لي. وحتى تقديم الهدايا إلى الأبناء من قبل الآباء والأمهات، أو تقديمها إلى الآباء والأمهات من قبل الأبناء والبنات، لا يخلو من اعتبار كسب الرضا والعرفان، لدى متلقي الهدية. هذا طبعا بغض النظر عن الهدايا التي تقدم للمسؤولين والمتنفذين من أجل نيل منفعة، والتي تعتبر رشوة ضمنية.

في المجتمعات البسيطة يلعب تقديم الهدية دورا اقتصاديا من خلال كونه واسطة من وسائط التكافل الاجتماعي. وفي هذه الحالة يمثل نوعا من أنواع الإقراض. فالمرأة التي تهدي صديقتها مبلغا بمناسبة قدوم مولود لمواجهة بعض تكاليف المناسبة، تنتظر من صديقتها رد هذه الهدية إذا حدثت لها هي مناسبة شبيهة. وحين أهدي لصديق خروفا لمواجهة جانب من أعباء فرح زفاف ابنه أو ابنته، فإنني أنتظر أن يرد لي هذه الإعانة إذا أقمت أنا مناسبة مماثلة. وعدم رد الهداية عند مناسبة شبيهة يعكر، غالبا، صفو العلاقات الودية، خصوصا عندما يكون الشخص الذي عليه الدين مقتدرا.

عدم البراءة هذا، يشمل حتى الناحية الدينية. فالقرابين التي تقدم إلى الآلهة والأرباب والكائنات الخفية، وفق ما تكون من معتقدات، إنما تستهدف كسب رضا هذه الكائنات ومنعها من إلحاق الإيذاء بالمعتقدين في وجودها. ولا يبدو أنه بمحض المصادفة أن يكون الفعل "هَدَيَ" في العربية جذرا مشتركا بين "الهَدْي" المتمثل في القرابين التي كانت تقدم إلى الأرباب الشفعاء الذين كان العرب يتقربون عن طريقها إلى الله، و "الهدية" بالمعنى المتداول حاليا.