Atwasat

ذاكرة مكان.. الشاويش جاب الله

صالح الحاراتي الأحد 08 نوفمبر 2020, 01:40 صباحا
صالح الحاراتي

* قرأت تقريرا عن دراسة نشرها الصندوق العالمي للطبيعة" WWF ، يقول : انه لم يبق سوى نحو ثلاثة عقود، أي فى سنة 2050 حتى يُحرم سكان النصف الجنوبي من الأرض من أكل السمك، بل ستختفي الأسماك في بحارهم ومياههم الإقليمية. والسبب هو قدرة سكان الدول الصناعية الغنية على شراء السمك مهما غلا ثمنه. وذلك يعنى أن استهلاك السمك فى الدول الغنية، يهدد الأمن الغذائي لعديدٍ من دول النصف الجنوبي من الكرة الأرضية وحرمان نحو 800 مليون إنسان من حضور السمك على موائدهم كوجبة غذاء غنية.

هذا التقرير أو الدراسة أحيا فى عقلي ذكرى مكان عايشته فى زمن مضى حيث كان البحر يسد جانبا من حاجة الناس من الغذاء .

* كان شاطىء المدينة مشهورا ومتميزا برماله البيضاء ومياهه الزرقاء الصافية، مما جعله قبلة المصطافين من كل المناطق المحيطة بالمدينة.. كان هناك على الشاطئ مجموعة "كبائن" مصنوعة من الخشب وملونة من الخارج بالوان زاهية مبهرة مبهجة، وهى عبارة عن حجرة صغيرة على شاطئ البحر يخلع فيها المستحم ثيابه أو يلبسها .

أحيانا ترى أصحاب الكبائن يتحلقون أمامها فى فترة الغداء وأكثر ما يتناولونه فى أكلهم هو "البطيخ".. لسهولة التعامل معه وتوفره بسعر معقول، ولكن بعد أن تم بناء كبائن صغيرة اسمنتية فى آخر امتداد للشاطىء، بدأ البعض فى إعداد الأكلة الشعبية "المبكبكة".

هناك من يمارس لعبة الكرة الطائرة أو كرة القدم، وهناك من يمارس المشى بمحاذاة الشاطىء .

وأذكر أنه فى خلفية الأكواخ الخشبية هناك من يبيع الفول السودانى"الكاكاوية" بجانب السارية، التى يرفع عليها علم يحدد حالة البحر وخطورتها.. وألوان العلم تشابه إشارات المرور فى دلالاتها .
الحياة تمضى رتيبة هادئة وفى سلام تام.. ولكن كان هناك لقطة لا زالت عالقة فى ذهنى؛ إنها لقطة انفجار "الجيلاطينة" والشاويش جاب الله ..
(الشاويش صولداتو.. المارى بووم..الفيش مات.. كان تبيه خوذيه).

تلك العبارات المضحكة كان ينطقها أحد الظرفاء ليشرح لسيدة أجنبية ماهية صوت الانفجار الذي دوى في البحر قبل قليل.. "الشاويش العسكرى فجر البحر والسمك مات وإن كنت تريدينه فخذيه".
ورغم مضار الصيد بالديناميت "الجيلاطينه" على حياة الكائنات البحرية لأنها تقتل الصغير والكبير، إلا أن المناخ العام والسائد وهو الفقر الذى يعم الأغلبية، لذلك معظم الناس لا يفكرون فى مضار ما يفعله الشاويش جاب الله على الأحياء البحرية، فكل ما يهمهم هو اللحظة التى يشير فيها الشاويش لجميع المتربصين المتحفزين على الشاطىء للدخول وأخذ الغنائم..

فقد كانت العادة أن يأخذ الشاويش ومعاونه أفضل وأكبر أنواع السمك ثم يأذن "للشعب'" بأخذ ما تبقى من الغلة، وهو غالبا صغير الحجم ولكنه يعتبر مكسبا شعبيا يزيد من احترام الشاويش لدى الناس، لأنه يسد أفواها جائعة تترقب.. وكأنه يطبق ما يفعله حكام الاستبداد وحالتهم الذين يستاثرون بالكثير ويلقون بالفتات للرعية المطيعة .

في إحدى مرات تفجير "الجيلاطينة" كنت أحد المتربصين وقد أعطاني أحد أصدقائى كيس نايلون لكي أضع فيه ما يمكننى التقاطه من السمك.. أتذكر أن الحصيلة فاقت ما يمكن أن يستوعبه الكيس، وقطعا كان يوما سعيدا .
لقطة انفجار الجيلاطينة أحيانا تكون قوية يسمعها كل أهالي المدينة فيتسابقون عدوا باتجاه البحر وأحيانا يكون صوتها خافتا ولا يسمع فى المدينة ويفوز بالغنيمة من هو على الشاطىء حينها، ولكن يتم الحديث عن ذلك في المساء حين يجتمع صغار الشارع فوق مصطبة جارنا عبد العال .