Atwasat

فخ المُحاصصة

الهادي بوحمرة الأربعاء 04 نوفمبر 2020, 10:51 صباحا
الهادي بوحمرة

لبنان بلدٌ ثريٌ، جميلُ الطبيعة، معتدلُ المناخ، متعددُ الثقافات، واللبناني إنسانُ – على وجه العموم- ذكيٌ، منفتحٌ، سريعُ الاندماج، عالي التعليم والثقافة، يعيش في وسط متعدد الثقافات، ومكون من مزيج من الأعراق، إلا أن هذا اللبناني وقع في فخ المُحاصصة، بعد أن زينوها له، وظن من أقوالهم أنه يُحسن صنعا إذا ما نهج سبيلها، ولم يدرك فساد الرأي؛ إلا بعد أن فعلت به ما لم يفعله الاحتلال، وتمنى- وهو يكتوي بنارها- أن يعود إلى ما كان عليه قبل الاستقلال. فاللبنانيون اليوم هم ليسوا لبنانيين فقط، هم إما مسلمون، أو مسيحون، والمسلمون إما شيعة، وإما سنة، والمسيحون إما موارنة، وإما كاثوليك، وإما أرثوذكس؛ دون أن ننسى غيرهم من الطوائف. تباينوا على مستوى الوطن، وتباينوا على مستوى الطوائف والعائلات. فرئاسة مجلس النواب تعود إلى الشيعة، ولكنها ليست بابا مشرعا لكل شيعي، ورئاسة الوزراء من حق السنة، ولكنها حكرٌ على صفوة المذهب منهم، ورئيس الدولة يجب أن يكون مسيحيا مارونيا، دون أن من حق كل ماروني أن يصبح رئيسا.

ما كان للزعماء أن يضعوا حدا للحرب الأهلية؛ إلا بضمان مكانتهم التي كانت قبلها، والتي يجب أن تستمر بعدها، امتدت المُحاصّصة مع الزمن إلى أبعد من الرئاسات الثلاث، فمن الطبيعي أن تخضع الفروع للأصول، والنتيجة للمقدمات، وأن تدور الأحكام مع عِلاّتها وجودا وعدما، فقانون الانتخاب وترسيم الدوائر قائم على مُحاصصة المقاعد بين الطوائف، وتوزيع مشاريع التنمية مؤسس على تمركز وتوزيع أبناء الطوائف، وأجهزة الدولة مسجلة عرفيا تحت ملكية الطوائف، وكل ما في البلاد يقاس بمقياس الطوائف. حتى المفاهيم انقلبت، فالعدالة هي عدالة بين الطوائف، والمساواة هي مساواة بين الطوائف، والتنمية هي تنمية مناطق الطوائف. المواطن لم يعد له وجود؛ إلا كرعية من رعايا الطوائف،لا حق له في اختيار الرئيس، ولا في اختيار رئيس الوزراء، له فقط أن يختار ممثلي الطائفة في البرلمان، وهم من لهم القول الفصل؛ بعد ذلك؛ في كل شؤون البلاد.

الطوائف اليوم هي الدولة، والدولة هي الطوائف، وعلى كل طائفة أن تحمي نفسها في مواجهة غيرها من الطوائف، وليس لها سبيلٌ غير سبيل الاستقواء بالخارج على الداخل، والنتيجة أن أصبحت الطائفة رهينة الخارج، والدولة رهينة الطائفة، ولم يعد الهدف حماية الدولة بل حماية الطائفة من غيرها من الطوائف، انتشر سرطان المُحاصصة في كامل أعضاء الجسم اللبناني، فالبحث عن دعم الطائفة في مواجهة غيرها من الطوائف يحتاج إلى دعم زعيمٍ في الطائفة في مواجهة غيره من الزعماء، وتقاسم المناصب على مستوى الدولة يتبعه بالضرورة تقسيم حصة الطائفة بين العائلات النبيلة فيها، فلا مفر من المُحاصصة على مستوى الطائفة، كما هي الحال على مستوى الدولة، فلا يمكن أن تُحرف مواطنة الدولة، وتحافظ على (مواطنة) الإقليم، أو القبيلة، أو الطائفة، ولا يمكن أن ترفض المساواة بين المواطنين على مستوى البلاد، وتتمسك بها على المستويات الأدنى.

ولأن الدولة قائمة على المُحاصصة بين الطوائف، فالترابطُ داخل كل منها ضرورة؛ للحفاظ على نصيبها من القسمة، ولا يمكن أن يكون هناك ترابط بين أفراد الطائفة، ما لم يكن هناك ترابط داخل مكوناتها، ولا وجود لتعصب طائفي، ما لم يسبقه تعصبٌ عائلي، فالأخير مقدمة للأول، ومن لوازم الحفاظ على الأول الحفاظ على الثاني. كما أن التراضي بين طوائف البلاد يحتاج إلى تراضٍ بين عائلات كل طائفة على حدة، وهو ما يعني أن التفاوض على مستوى الطوائف يجب أن يكون تاليا للتفاوض على مستوى كل طائفة، وهكذا دواليك، إلى أن ينتهي الأمر إلى القاع. فلا انفكاك بين التراتبية على مستوى الوطن والتراتبية داخل كل مكون من مكوناته، وما دمنا لسنا سواسية على مستوى الوطن، فلا يمكن أن نكون سواسية على مستوى القبيلة، أو المدينة، أو الاقليم، أو الطائفة.

زرعت المُحاصصةُ المحسوبية، والمنسوبية، والرشوة، وظهر الأثرياء، وزاد الفقراء، وأفلست الدولة، وتحكم فيها السوري والإيراني والسعودي والفرنسي. تناوبوا عليها أحيانا، وتقاسموها أحيانا أخرى، قوة الخارج تعتمد على قوة الطائفة في الداخل، وقوة الطائفة في الداخل تعتمد على وزن الداعم لها من الخارج. بَقيِت حقوق المواطنة مجرد حبر على ورق، فلا يمكنها أن تدخل حيز التنفيذ مع المحاصصة، فلم يعد بالإمكان المطالبة بالكفاءة في تولي الوظائف، ولا بالمساواة في الحقوق، وأصبحت المصلحة العليا للدولة مجرد كلمات تذهب أدراج الرياح، وتحولت مؤسسات الدولة إلى "دوائر للطوائف"، فما هي إلا واجهة لشرعنة ما يقرر في مجالسها. تحول النظام البرلماني إلى نظام طائفي، فأعضاء البرلمان هم أعضاء طوائف، والثقة التي يمنحونها هي ثقة الطوائف، والقوانين التي يصدرونها هي قوانين ترضى عنها الطوائف. اختفى الشعب خلف الطوائف، ولم يعد له وجود إلا من خلالها، فهو لا يختار الرئيس، ولا يختار رئيس الوزراء، ولا الحكومة، هو يختار فقط النواب عن طائفته، وهم من يكملون لعبة المُحاصة، ويتنازعون المناصب فيما بينهم، دون أن يستطيع أي منهم الاستغناء عن الآخر، فالرئيس الطائفي ورئيس الوزراء الطائفي والبرلمان الطائفي يتحاصصون الوطن؛ حسب مصالحهم وأهوائهم وأوزانهم، ولا وزن لهم إلا وزن الطوائف، وعلى المواطن- وهو يرى كل ذلك- أن يحافظ على الطائفة، فهي من يوفر له الحماية، وبدونها يتهدده الضياع، ولا مكان له في البلاد، وما عليه إلا شد الرحال.

ما كان لمثل هذا النظام أن يستقر على حال، وما كان له إلا أن ينتج أسباب العجز والفساد، وهلاك الاقتصاد، وضياع السيادة، ونشر المظالم، وطحن الرعية، وزيادة الأثرياء والفقراء، وحجب المصالح العامة، وتقديم الخاصة، وتجاوز الثوابت الوطنية، وعلو مستحدث الثوابت الطائفية.

انتقل لبنان من أزمة إلى أزمة، ودخل في أنفاق مظلمة، فطفح الكيل، وخرج الناس إلى الشوارع نازعين ثوب الانتماء لغير الوطن، رافضين نظاما قائما على المُحاصصة، بعد أن وصلت نتائجه إلى حاجاتهم اليومية. إلا أن من بيده المقاليد لا يمكن أن يستجيب بسهولة، وما عليه اليوم إلا أن يبحث عن بدائل تضمن له البقاء. بدأت المشاورات بين الزعماء، وتدخلت الدول التي يعنيها الأمر، منهم من اقترح إصلاح النظام القائم، وإعادة تطويعه، وهو يدرك أنه نظام نخره السوس منذ حين.

منهم من جمع من الحجج ما يراه كافيا للقول بصحة النظام الطائفي، وبأنه يتناسب مع حال البلاد، وأرجع العوار إلى التطبيق، لا إلى المُحاصصة، ولجأ إلى زرع الخوف بين الناس، ودفع بأنه لا أمان، ولا توازن، ولا عدالة دون مًحاصصة. آخرون قالوا أن العيوب أتت من أن نظام المُحاصصة لم يكن كافيا، وأن الحل في تجذيرها على نحو أعمق؛ كي تعطي ثمارها، ونادوا بالفيدرالية الطائفية، فهي- كما يقولون- نظامٌ ناجعٌ، يناسب البلاد، ويدعم الطوائف، ويخلق التنافس "الشريف" بينها، وينسجم مع الواقع، ويقرب المكونات من بعضها، ففي تميزها ضمان لوحدتها ووحدة البلاد، وقوتها وقوة البلاد، وطالبوا بتحول جغرافيا بلد صغير لا يتجاوز سكانه السبعة مليون إلى جغرافية دينية مذهبية، وبتقسيمه إلى مناطق حكم محلي ذات خصوصية طائفية، وبدأت تظهر- بناءً على ذلك- خرائط الحدود العشائرية الدينية. نادى آخرون بالمواطنة، وبالتحول إلى حكم الأغلبية، فما الديمقراطية إلا حكم الأغلبية، فظهر من يصف هذا الطرح بالكارثي، وينعت القائلين به بأصحاب النوايا السيئة، وبأنه لو مر هذا لكان الخطوة الأولى نحو التقسيم، فلا يمكن لمن ينتمون لطوائف أقل عددا أن يقبلوا بحكم طائفة الأكثرية، وكأن كل طائفة من طوائفهم على قلب رجل واحد، وأنهم جميعا يضحون بمصلحتهم من أجل مصالح زعماء الطوائف.

لبنان اليوم تتعدد فيه الاقتراحات، منها ما يأتي من الداخل، ومنها ما يُنسج في الخارج، منها ما تصم عنه الآذان، ومنها ما يقرع الأسماع عبر وسائل الإعلام، وكل فريق يحاول أن يدافع عن التصور الذي يناسبه، ويزرع الشكوك فيما لا يناسبه، ويقذف أصحابه بالخبث والأنانية، مع أن أغلبهم يحاول أن يلبس المُحاصصة ثوبا مغايرا، ويضع لها تاريخ صلاحية جديدا، دون أن يستخلص العبر من الماضي والحاضر، ودون أن يردعه ما آل إليه حال البلاد والعباد.