Atwasat

حرية التعبير و"أغلوطة العرْض"

سالم العوكلي الثلاثاء 03 نوفمبر 2020, 09:21 صباحا
سالم العوكلي

العام 1997 كنا، قد استلمنا مبنى الكنيسة السابقة في المدينة القديمة بدرنة لتحويله إلى (جمعية بيت درنة الثقافي)، وبجهد ذاتي وعمل تطوعي تم تنظيف وترميم هذا المبنى، وشرعنا في إقامة أنشطة ثقافية بين محاضرات وندوات ومعارض.

يوم 17 فبراير من العام 2006 فوجئنا، على غير العادة، بمظاهرات لبعض الشباب في المدينة احتجاجا على صورة مسيئة للنبي محمد نشرت في جريدة دنماركية، وحار الشبان إلى أين يوجهون غضبهم، فاتجهوا أولا إلى مقر مديرية الأمن التي لا علاقة لها بهذه الرسوم، وحين فرقهم الرصاص المطلوق في الهواء، توجهوا إلى مبنى الكنيسة، الذي هو في الواقع مقر جمعية ثقافية، وأضرموا فيه النار حتى تحول إلى مجرد جدران سوداء مكتظة بالرماد.

من الواضح أن تلك المظاهرات كانت موجهة من قبل أجهزة تابعة للنظام بحيث تكون مراقبة ولا تخرج عن السيطرة، لكن ما حدث، في اليوم نفسه وللسبب نفسه، أن خرجت المظاهرة في بنغازي عن السيطرة، ما أدى إلى مقتل العديد من الشبان حين هاجموا مبنى القنصلية الإيطالية.

رافق هذه الاحتجاجات دعوات لمقاطعة المنتجات الدنمركية، وبعد فترة هدأ الغضب، وتواصل الناس مع هذه المنتجات من جديد، بما فيها الفودكا الدنماركية، غير أن هذه الصور التي بدأت بها جريدة يمينية محلية في الدنمارك استمرت تظهر من فترة إلى فترة وفي أماكن مختلفة وكأن ثمة جدولا لهذا الظهور الموسمي، وكلما تظهر يعم الغضب المجتمعات الإسلامية، ويترتب عنها ضحايا أبرياء بيد بعض المحتجين على هذه الصور أو بيد المحتجين على المحتجين على هذه الصور.

ولكن فلنعد إلى تاريخ هذا النوع من ردات الفعل التي توضع الآن تحت عنوان (الإرهاب)، الذي مازال تعريفه حتى الآن، إلى جانب تعريفات مشتركة للإرهاب، ترد في القوانين المكافحة له، تشير إلى تلك الأفعال العنيفة التي تهدف إلى خلق أجواء من الخوف، ويكون موجهاً ضد أتباع طائفة دينية وأخرى سياسية معينة، أو هدف أيديولوجي، وفيه استهداف متعمد أو تجاهل لسلامة المدنيين.

تاريخيا أظن أن هذا النهج اختفى في التاريخ الإسلامي ــ كظاهرة عنف ديني منظم ــ مع أفول طائفة الحشاسين التي أسسها الحسن بن الصباح الذي اتخذ من قلعة ألموت في فارس مركزاً لنشر دعوته. وتعتمد الإستراتيجية العسكرية للحشاشين على الاغتيالات التي يقوم بها جهاديون لا يأبهون بالموت في سبيل تحقيق هدفهم. وحالة داعش تذكرنا بهم.

ولم يظهر هذا النهج الإرهابي بشكل واضح ومنظم إلا بداية الثمانينيات من القرن العشرين، وخلف هذا التاريخ يقف حدث مهم، وهو الثورة الإيرانية العام 1979 التي تمخضت عنها أول دولة دينية في العصر الحديث يحكمها الملالي، وأدت الرغبة في تصدير هذه الثورة إلى العالم الإسلامي إلى إنتاج خطاب متطرف انتشر في المنطقة عبر الكاسيت، وباعتباره خطابا شيعيا توسعيا، وقف في مواجهته خطاب سني متطرف استخدم أيضا الكاسيت في حرب المواجهة، ومن هذه المواجهة عادت التنظيمات المسلحة والأعمال الانتحارية باسم الدين.

الثورة الإيرانية بدأت كحراك مدني قادته الطبقة المتوسطة والنخب المثقفة والجمهوريون واليسار الذي كان نشطا، غير أن شخصا كان يعيش بضاحية نوفيل لوشانو الباريسية لاجئا مرفها، دخل المشهد فجأة، حين نزعت السلطات الفرنسية آنذاك فتيله، لتحمله طائرة فرنسية وتلقي به في قلب هذه الثورة، كمهدي منتظر، روح الله الخميني أو كما يكنى "آية الله العظمى"، لتنقلب هذه الثورة في جلدها، وتطغو التراتيل الدينية على هتافاتها المدنية المطالبة بالحرية والديمقراطية والحقوق، مثلما حصل في الربيع العربي حين تقاطر عليه قادة الجماعات الدينية والإرهابية من عواصم أوربية.

بداية من الثمانينات، كما ذكرت، بدأت أحوال الجاليات الإسلامية تتبدل، في أمكنة كثيرة ومن ضمنها فرنسا، و بدأت تظهر لأول مرة أعمال تفجير وقتل وحرق في ضواحي باريس ومدن أخرى، ولكن الحدث المهم هو إضراب عمال مصانع السيارات العام 1982 (الذين كان معظمهم من جاليات دول إسلامية، وما أثاره من شغب وعنف، وتصريح الناطق باسم الحكومة الفرنسية آنذاك بكون من يحرك هذه الحشود "أصوليون إيرانيون" وهذا لا يخلو من الحقيقة إضافة إلى مظالم أخرى حركتهم.

من جانب آخر أسهمت الحرب الباردة بين إيديولوجيتين مهيمنتين على العالم في هذا الإيقاظ لإستراتيجية الحشاشين في التاريخ الإسلامي من جديد، وعبر نمطين. الأول نظري، حين فكَرَ بعض المفكرين الإسلاميين في التنظير لتحويل الإسلام إلى أيديولوجيا تصارع هذه الأطروحات التي تتقاسم العالم، والثاني إجرائي يتمثل في استخدام هذا المد الديني في منطقة الشرق الأوسط في مواجهة المد الشيوعي، وما تمخض عنه من مساعدات مباشرة من المخابرات الأمريكية لتنظيمات سنية متطرفة، وجماعات قلب الدين حكمتيار وشاه مسعود، وحركة طالبان، والأفغانيين العرب بقيادة أسامة بن لادن المؤسس لتنظيم القاعدة.

في الحالتين أسهم الغرب بدور في صناعة هذه التنظيمات الإرهابية التي دفع المسلمون المدنيون الثمن الأكبر لوحشيتها، ونشر مثل هذه الصور والتصريحات المدافعة عنها بحجة الدفاع عن حرية التعبير ستعزز هذا الإرهاب وتزيد من ذرائعه، غير أن ما أفهمه أن للحرية إطارا قانونيا وأخلاقيا بحيث لا تتسبب في أذى الآخرين فيزيائيا أو معنويا، فحرية التظاهر السلمي مثلا حق مقدس، لكن بمجرد أن يخرج هذا التظاهر عن أخلاقيته السلمية ويثير شغبا أو تخريبا أو قتلا، تتصدى له الشرطة وتعتقل المتسببين في الأذى، كما حدث مع احتجاجات السترات الصُفر.

أما ما يخص تصريحات الرئيس الفرنسي التي زادت الطين بلة فيبدو أن السيد ماكرون لم يطلع على مفهوم "حرية التعبير" إلا كما يرد (كليشيهيا) في الدستور أو في وسائل الإعلام، ولم يطلع على مفهومه في الفلسفة الأوربية التي تُعتبر المرجعية المعرفية والأخلاقية للدساتير العلمانية الأوربية، ومن أدوات جدالها نمذجة بعض الأغاليط الشائعة، ومن أشهرها ما يسمى "أغلوطة العَرْض"، وهي أغلوطة خاصة مرتبطة بتطبيق قاعدة عامة بشكل غير مناسب على حالة بعينها. ومَثَلُها الدارج يتعلق بسوء فهم هذا المفهوم: "إذا زعم شخص ما أن حق حرية التعبير يمنح المواطنين حق تهديد حياة بعضهم البعض، فلك أن تتهمه بارتكاب هذه الأغلوطة. فلأن القاعدة التي تقول إنه ليس للحكومة أن تتدخل في حرية التعبير لا تسري إلا على التعبير الذي يحوز قيمة سياسية، أو لا يسبب على الأقل ضرارا جسيما، فإنها لا تحمي ضد التهديدات الخطرة، والتحرش، والتشهير، والمعاملة السيئة. وعلى نحو مشابه، فإن قانون نيوتن، أن الحركة تظل قائمة، لا يسري على الأجسام المتحركة التي تتعرض لقوى خارجية."*.

وفي الأحوال جميعا، وحسب وجهة نظري، إن ما يهين نبي الإسلام، ليس هذه الصور التافهة، ولكن صور أولئك الذين يقطعون الرؤوس وخلفهم راية سوداء مكتوب عليها (محمد رسول الله)، والشيوخ الذين يبدؤون كلماتهم بالصلاة على النبي محمد ثم يشرعون في التحريض على الكراهية وإطلاق فتاوى التكفير والقتل. وهؤلاء القتلة والمحرضون على الكراهية لا يمثلون نبي الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام، مثلما لا تُمثل المسيح عليه السلام، حروبُ الإبادة الصليبية، ولامحاكم التفتيش، ولا الاسترالي ليبرانت ترانت سفاح نيوزلندا، ولا ترامب العنصري الذي يحمل إنجيلا أمام كنيسة الرؤساء في مواجهة المحتجين على العنصرية.

* عَتاد الفيلسوف: خلاصة وافية للمفاهيم والمناهج الفلسفيةــ بتير س. فوسل / جوان باغيني ـ ترجمة نجيب الحصادي. قيد الطبع.