Atwasat

أشياء مفقودة في المتاهة المقنعة

رافد علي الثلاثاء 03 نوفمبر 2020, 12:29 صباحا
رافد علي

تعرف الفيلولوجي بأنها علم النصوص القديمة، وخصوصاً المنصبة علي دراسة النص القديم - ديني أو سواه- دراسة تاريخية مقارنة. برز المصطلح الفيلولوجي بشكل علمي مكثف عام 1960 مدشنا حقله العلمي تخصصاً بعيداً عن علم اللغة وفروعها بأوربا رغم علاقة التداخل بينهما. بالجامعات العربية ما زالت الفيلولوجي أكاديمياً محصورة في أقسام اللغة العربية كجزء من علوم اللغة، ودون تحقيق تخصص أكاديمي لكل منهما، وذلك للافتقار للبنية التحتية الفنية والبشرية بشكل عام، ولربما لانعدام الجرأة لمنح الفيلولوجي حيزاً في جامعاتنا باعتبارها أسلوباً علمياً يتجاوز التابو. يرى المفكر المعاصر المرحوم محمد أركون في كتابه الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، عن دار الساقي، أن نصوصنا الإسلامية وجب دراستها فيلولوجياً بما سيسمح بضبط المفاهيم ومحاصرة التابوهات المزيفة عبر الاجترار، ولتقويض أسوارنا الدوغمائية «العقائدية» التي تحول تعسفاً غالباً من فتح أبواب جديدة في فهم العقيدة وللفكر، وستسمح لإدراكاتنا بأن تبلور مفاهيمنا للحياة المعاصرة تماشياً مع معطيات الزمن. فالفيلولوجي نسق منهجي للمعرفة يبحث في المفردات لضبط مدلولاتها ضمن عصرها وزمنها بما يحول دون خلط المعارف والإدراكات لمن يقدم قراءة لأي وثيقة تاريخية -ومن أي نوع - بشكل حر أو ضمن قدسيات أصيلة أو نالت قدسيتها لاحقا بسبب التراكمات الزمنية مما أقحمها في القفص الدوغمائي قصداً أو بلا قصد، كما في قضية الأحاديث النبوية الشريفة.

من ضمن الإشكاليات العربية في حقل الفيلولوجي حالة العوز إلى قاموس لغوي محترف يحترم العامل الزمني في ترتيب المعاني والمدلولات للمفردات. وهذا يشير إليه المفكر العربي المعاصر الدكتور عبدالله العروي، إذ يقول في إحدي مداخلاته المسجلة متحدثاً عن إشكاليات الفيلولوجيا في المنظومة العربية وحالة عوز الفكر العربي – الإسلامي بالخصوص، يقول:
(من الأمور التي تعوزنا قاموس تاريخي يعطينا تسلسل المعاني حسب التسلسل الزمني. لسان العرب ليس قاموساً تاريخياً. خذ كلمة «جهاد»، نفتح لسان العرب نجد أمثلة من القرآن والشعر الجاهلي والفقه... إلخ دون أدنى ترتيب زمني، فلا يمكن أن نقول: كلمة جهاد في القرن الفلاني كانت تعني كذا، وفي القرن الفلاني تعني كذا. وبما أن الوثيقة ترجع إلى الفترة الفلانية فإن الجهاد فيها يحمل حتما المضمون الفلاني). بمعنى أن مفردة جهاد حتما تختلف في زمن الرسول المصطفى عما تفضل به ابن تيمية مثلاً. وينتقد الكاتب والناقد الأدبي المعاصر محمد الحرز بطريقة أركونية مدرسة الاستشراق بمنهجها الفيلولوجي في تفكيكهم للحالة الإيمانية الإسلامية بكونه حالة وصفية، لا تتجرأ على الخوض بشكل أعمق تفكيكاً للنصوص القديمة المقدسة وغيرها، مناقضة بذلك الروح الأكاديمية المتعارف عليها في الغرب باعتبار الفيلولوجي منهجية صارمة وجريئة في تعاملها مع أي نص قديم بما فيها الديني بكل قدسيته. يقول الكاتب محمد الحرز في مقالته المنهج والبحث التاريخي:-

(لو أخذنا على سبيل المثال دراسة فرانز روزنتال حول مفهوم الحرية في الإسلام.... نجد أنه يبحث عن تعريفات هذا المفهوم في مدونات الفلسفة وعلم الكلام والفقه والشعر والقرآن، لكنه لا يراعي التسلسل الزمني لكل تعريف. فهو يقفز من الجاحظ في البيان والتبين على مروج الذهب للمسعودي وهكذا دون تمايز بين عصر الجاحظ المعرفي وعصر المسعودي الثقافي).

حتى نمضي في مسار نهضوي صميم، وجب علينا قبل التحلل من ارتباطاتنا لذواتنا الضائعة في عالم لا ندركه بسبب تخلفنا من حيث هضم المفاهيم العصرية على الأقل، وجب علينا أن ننظر إلى أنفسنا بأثر رجعي، محققين في ماضينا الذي ما زلنا نعيشه بضبابية المدرك، أو باجترار النص المستصاغ ضمن أسوار عقائدية شاهقة نفرضها على أذهاننا، لتحول دون قراءة مفتوحة وتقدمية، لا تتردد في مواجهة ذاتها قبل سواها، وبلا أن نراعي فكرة انتقال نصوصنا الأولى من حالة الشفوية إلى الحالة المكتوبة بعد تدشين التدوين في ثقافتنا العربية خاصةً والإسلامية بشكل عام. إن مراجعة الذات بأثر رجعي وضمن أساليب العلم ومناهجه الصارمة هي من ستمنح لنا أفكارا حقيقية، وقيما أصيلة ما زالت ضبابية في منظومتنا عموماً، كالتسامح، والمرأة على سبيل المثال، وبما قد يسمح لعصرنة البعض من تلك المفاهيم كمفهوم الفرد وحريته في مجتمعه اليوم لتجاوز مفهوم الرعية الذي نقفز منه إلي مفهوم المواطنة بكل عشوائية وبلا أي تأصيل.

«نجاعة الأفكار المنطقية هي الأيقونة الأساس لنهج الحرية في العالم» هذا ما اتخذه توماس باين موقفاً حياتياً على هامش رحلة عطائه. على النقيض تماماً، ثقافتنا العربية ما زالت لم تهضم الحرية، لا كمبدأ، ولا كمفهوم، لأنها ما زالت تعيش بعقلية لا منطقية، وثبت سقوط نجاعتها بدليل تقلبها المفلس في محنتها المعاشة على مستوى كل التخبطات والانكسارات وسوء الأداء وبروز حالة الحنين العشوائي للماضي الطافية على سطح أحوالنا جميعاً لأن الغد تلاشى. عقليتنا ليست منطقية وتنافق عصرها بخلاعة حيناً، ومواربة حيناً آخر، أما إذا خضنا في غياهب معايشة المحنة على مستوى الفكر، الذي يظل مستوى محصور المدى ونخبوي الروح ومحاصر من عدة نواح، سنكتشف مدى البعد الآخر في محنتنا المؤلمة. متاهتنا التي نعيش لا سبيل من الخروج منها إلا بالإدراك الناضج إننا نفتقد لقراءة حقيقية وعصرية لتراثنا الذي ما زال مبهماً لنا على مستوى المعاني والدلالات، وإننا في سبيل النهوض تعوزنا الكثير من الأشياء منها أن نقف بشجاعة أمام أنفسنا.