Atwasat

التفوق على النفس

محمد عقيلة العمامي الإثنين 02 نوفمبر 2020, 11:49 صباحا
محمد عقيلة العمامي

صديقنا محمد حسين كانون، تخصص في لغة الأرقام، وامتهنها، فصار من أبرز رجالها. نحن أصدقاءه لا نستطيع أن نصفه فيلسوفا في مهنته، مثلما نراه فيلسوفا في الأدب، فهو قارئ جيد ومتابع منتظم، وفوق ذلك هو من أولئك الذين يمتلكون القدرة علي أن يعزل نفسه تماما عمن حوله، وأحيانا عن عمله، ليتوحد مع ما يقرأ. رأيته أكثر من مرة مأخوذا بنص، أو مستغرقا في قصيدة، كراهب في صومعته، ولا يتركه حتى يطلق حكمه الذي يلخصه دائما في جملة اشتهر بها وهي: " لقد تفوق على نفسه!". لا أخفي عليكم أنني لم أجد لها تفسيرا، وإنما أعتبرها صيغة إعجاب، وكفى!

صباح هذا اليوم، عدت إلى كتاب عنوانه "روائع المقال" لمؤلفه "هوستون بيترسون". وأغلب روائع هذه المقالات هي في الواقع "كتيب" أو مشروع كتاب، فالمقال يصل أحيانا حتى أربعين صفحة (فولكساب)، وهكذا هي أغلب مقالات عصر النهضة الأوربية.

في مقال عنوانه "عن فن الحديث " للكاتب الفرنسي: (ميشيل ايكم دي مونتيني) الذي يعد "أبو المقال" وجدتُ تفسيرا واضحا وحقيقيا ومقنعا لمعني "التفوق على النفس".

ومما شجعني على الاستغراق في هذا المقال الطويل، نُبذة كُتبت عن "مونتيني" تقول إنه انحدر من عائلة كبيرة تأسست وحققت ثروة من صيد اسماك الرنجة! وأنه درس القانون، ولكنه تركه وترك (الرنجه) واهتم بكتابة المقالة التي نمت على يديه وأصبحت أكثر طولا وعمقا من دون ملل من قراءتها.

صيد السمك هنا أعادني إلى رصيف الصيادين في بنغازي، حينما كانت الأماسي الصيفية، وروائح طبق "الحرايمي" أمام أكواخ الصيادين ممتعة، وكانت الحلقات متعددة، ولكن عندما يأتي الرايس "محمد حمي" تتسع الحلقة حوله، وأذكر أنني، وصديقي خليفة الفاخري، استعرضنا سبب الالتفاف حوله؛ واتفقنا، على أنه في الواقع حكّاء متميز، ولكن الفاخري أضاف:

- "إنه كتلميذ مجتهد لأفلاطون؛ يجيد الإنصات، ولا ينتقد ما يقوله الصيادون...". وملاحظته هذه في محلها. فالصيادون، في الغالب يبالغون فيما يصطادونه، وأيضا في مغامراتهم البحرية، وصراعهم مع نوّات البحر المفاجئة؛ ولم أسمع منه مهما بالغوا، اعتراضا أو نقدا أو سخرية، سوى كلماته الشهيرة، التي يتذكرها بالتأكيد رفاقه: "صحيح"، "صارت" أو يرفع كفه الأيمن ويميل برأسه قائلا بتعجب: "لا! تصير.. تصر يا رايس!" . هكذا يعقب مهما كان حجم المبالغة في الحكاية. بل كثيرا ما يُلحقها بحكاية منه تعزز حكاية الراوي.

أدب الحديث هو الإنصات، ورؤية الأمر من وجهة نظر المتحدث، والابتعاد عن التخوين والتكذيب. غير أن الفيلسوف (مونتيني) يبرز فكرة التفوق على النفس، وقد نقول الانتصار على النفس في مسألة النصح والإرشاد، وذلك بإبراز عيوبه هو، وتوضيح مساوئها واجتهاده في التغلب عليها، مبتعدا من منطلق الواعظ الذي يتحدث عن الكمال وكأنه خال من العيوب، فالكثيرون يعون جيدا أن ما يعظون به الناس لا يُنفذونه.

"مونتيني" في مقالته: "عن فن الحديث" يقول إن أخطاء المرء، قد تصبح طبيعة ثانية، وهو في الغالب يُخفيها بشتى السبل، فالكتابة هي على نحو ما شكل من أشكال الوعظ، المستند على المثاليات، ولكن المرء بمقدوره أن يعظ الناس مستخدما تجربته؛ فأخطاء المرء قد تصبح طبيعة ثانية، وقد ينتبه إلى أنها معيبة فيخفيها، ولكن (مونتيني) يقول أن الصحيح هو أن نتعلم منها، ونصلح من أنفسنا بتجنبها، وعليك أولا أن تتجنب الحديث عن نفسك، فإن المتحدث عن نفسه، في الغالب، لا يجني إلاّ الخسارة، فاتهامك لنفسك يصدقه الناس، ويحثهم على الابتعاد عنك، ومديحك لنفسك قد يقع في دائرة تكذيبك! فأنت خاسر في الحالتين.

السلامة، مثلما يؤكد "مونتيني" تكون في تقويم عيوبك، والتعلم منها، قبل التعلم من أخطاء الغير، من دون انتقادهم، أو محاولة تقويمهم. لأن العقلاء يتعلمون من أخطاء الحمقى، أكثر مما يتعلم الحمقى من العقلاء!

ويؤكد أنه يحاول على الدوام الاستفادة من المثل السيئة، التي تصادفه فيتعلم منها دروسه اليومية. فالعاقل هو من يجتهد في أن يجعل من نفسه جذابا بقدر ما يرى غيره منفرا، وحازما بقدر ما يرى غيره متراخيا، ووديعا بقدر ما يرى غيره شرسا، وخيّرا بقدر ما يرى غيره شريرا. والأمر ليس بالسهولة التي نعتقدها، ولكن المحاولة تُنبهك  إلى أنك خليفة الله على الأرض. وتؤكد أن الاعتماد على دراسة الكتب فقط عمل هزيل بطيء لا دفء فيه، على عكس الحديث الممتلئ ثقافة ورياضة ذهنية، ويشير إلى أن تاريخ الإيطاليين يؤكد على أنهم يضعون الحديث في مرتبة الشرف في أكاديمياتهم، فهم أكثر من استفاد من مدرسة أفلاطون، ومازالوا يحتفظون ببقايا من هذا التقليد.

ويضرب مثلا بمدرس موسيقى، كان يبعث بطلابه لعازف رديء لكي يتعلموا منه كيف يكون النشاز، والجُمل الموسيقية الرديئة، فيتجنبوها. والأمر تماما مثلما أن الاشمئزاز من القسوة يقودك نحو اللين والرحمة، ومن التكبر فتتجه نحو التواضع، ومن الثرثرة المزعجة نحو الإنصات.

ويؤكد على أن "الحمق من الخصال المؤسفة، وفقدان المرء لأعصابه بسببه، كما يحدث، هو نقيصة لا تقل عن الحمق، وهذا ما أدينه في نفسي". وهذا وحق الله، لانتصار حقيقي للمرء على نفسه.

وظل أفلاطون بتواصل مقالة "مونتيني" حاضرا داعما رأيه في الحديث وفنونه، فأخذ من جمهوريته المثالية، وتحريم المناقشة مع الحمقى وغير المهذبين، وأن السادة المهذبين هم الذين يُعبرون عن رأيهم بشجاعة، وحديثهم مطابق لتفكيرهم.

وتوج مقالته الرائعة بقوله إنه عندما يجد عيبا في نقاش يبتهل ألَّا يكون بسبب عيب فيه! ألسنا خطّائين؟. ثم ألسنا نحن من نقول: "سلاما للجاهلين !"