Atwasat

مشروع الدستور الليبي في ظل المادة السادسة

صالح السنوسي الأحد 01 نوفمبر 2020, 11:13 صباحا
صالح السنوسي

يمكن الحديث عن الدستور من خلال ركيزتين، هما فكرة الحرية وفكرة سيادة القانون واعتبارهما السبب في وجود الدستور الذى هو نتاج للعقل البشرى، هذا العقل الذي وجد نفسه أمام إشكالية تتعلق بالوجود الإنساني، أي الجمع بين فكرة الحرية وفكرة القانون الذي يقننها، فكيف يكون الإنسان حرا وكيف يمكن تقنين ووضع ضوابط لهذه الحرية حتى لا تتحول ممارستها إلى سلب لحرية الآخر، فجاء القانون- والدستور هو أعلى مراتب القانون- كتدبير بشرى للجمع بين الضرورتين وحل هذه الإشكالية بالقدر الذي يقبل به العقل البشرى، وذلك بوجود مرجعية عليا تنظم العلاقة بين طرفي الإشكالية وتستمد هذه المرجعية علويتها من إرادة الجماعة البشرية، بحيث لا تسمح للقانون أن يتغول على الحرية  ولا تسمح للحرية أن تتحول إلى فوضي تسلب حرية الجميع.

نتعامل مع الدستور باعتباره مجموعة من النصوص التي تحوي جملة من المبادئ والحقوق والضمانات والقيم والآليات المتعلقة بالفرد والمجتمع والدولة والسلطة، وعلى أنه صناعة بشرية وليس تنزيلا إلهيا لا يجوز المساس به، بل هو تدبير بشرى ينتمي إلى العقل الإنساني وبالتالي يجوز إلغاؤه وتعديله ومراجعته، فليس فيه ما هو مقدس ومحرم أومحصن ضد الإرادة البشرية التي أنشأته، فهو فعل من أفعالها فيجوز لها أن تضع شروطا تلزم نفسها بها وتبين الحالات التي تجيز لنفسها ممارسة أفعال الإلغاء والتعديل.

لعل من الأفضل أن نبتدئ بهذه النقطة الأخيرة في إيراد  بعض الملاحظات المتعلقة بعدم تطابق ما تصورته وما وجدته في مشروع الدستور الليبي، ولكن بما أن فكرة مركزية الحرية وفكرة مركزية سيادة القانون يستوعبان فكرة الدستور بكامله، فإنني سأقتصر على بعض الملاحظات على مادة واحدة فقط.

الملاحظة الأولى: تنطلق من  فكرة أن الدستور هو صناعة العقل البشرى لحل إشكالية الحرية والقانون، وهذا يعني أنه قابل للإلغاء والتعديل وليس فيه ما هو محصن ومحرم. وهذه الفكرة تصطدم بالفقرة الأخيرة في  المادة 193 من مشروع الدستور الليبي المقدم إلى مجلس النواب التي تنص في فقرتها الثانية على أنه لا يجوز المساس بالمبدأ الذى تقوم عليه مجموعة من المواد منها المادة الثانية والسادسة وكذلك المتعلقة بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة ووحدة الأرض الليبية. غير أن هذا التحصين في المسودة السابقة التي تم تعديلها كان مقصورا على المادة الثامنة المتعلقة بالشريعة مصدرا لكل التشريعات، وبالتالي فإن تحصين مواد أخرى في التعديل الثاني هو في حقيقة الأمر تحصين للمادة السادسة المتعلقة بالشريعة فقط، ولكن وسط زحمة مواد أخرى ليست هي المقصودة ، فمثل هذا النص يعد أولا مصادرة لعقول الأجيال القادمة وحجرا على العقل البشرى وحرمانه من خاصيتي  التفكير والتطور.

الملاحظة الثانية: يدل هذا النص على أننا نكتب مواد نخاف عليها من تطور عقول الأجيال القادمة ولهذا حرمنا عليهم التفكير فيها والمساس بها دون غيرها من المواد حتي لو كان الرافضون لها هم المجتمع بكامله. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن رأي المجتمع لا قيمة له، بينما الحصانة الحقيقية لأية مادة في الدستور هي قبول المجتمع بها وتمسكه بها في كل مرة يتم فيها إعادة النظر في الدستور وتعديل مواده.

الملاحظة الثالثة: يجب التعامل مع الدستور على أنه نصوص تؤسس لدولة مدنية تكون فيها الإرادة العامة للجماعة هي المصدر الوحيد للحقوق والقيم والضمانات، غير أن هذا التصور يصطدم بنص المادة  السادسة التي تنص على أن "الشريعة الإسلامية مصدر التشريع". فهذا النص  يؤسس لدولة دينية تيوقراطية لا تعترف بالإرادة العامة كمصدر لشرعية أي تشريع في مواجهة نصوص دينية مختلف حول فهمها وتفسيرها، وأن الحقوق والضمانات والقيم يضطلع بتحديدها مجموعة من رجال الدين على ضوء فهمهم وتفسيرهم لهذه النصوص. وبالتالي فإن هذه المادة التي نسفت عمليا فكرة الدستور  تؤسس لدولة تقودها في جميع مناحي الحياة فتاوى واجتهادات رجال الدين ومراكز البحوث الدينية، ومن هنا فليست هناك حاجة إلى دستور وضعي ولا إلى برلمان يشرع طالما أن النصوص المقدسة تتكفل بشئون الجماعة والفرد من الولادة إلى ما بعد الممات.

الملاحظة الرابعة: لقد ورد في مشروع الدستور تعريفان للدولة لم يلحق بأي منهما صفة المدنية، فالتعريف الأول في المادة الأولى من المشروع  تصف ليبيا بأنها:" دولة حرة مستقلة لا تقبل التجزئة....." أما التعريف الثاني الذي ورد في المادة السادسة فيصف ليبيا بأنها "دولة إسلامية..." وهذا يعنى أن التعريف الثاني جاء ليبين شكل وهوية الدولة الدينية الذي لم يلم به التعريف الأول في المادة الاولى.
لقد تحاشت كل المواد المتعلقة بشكل الدولة وهويتها استخدام مصطلح المدنية كصفة لهذه الدولة وأكدت جميعها على دينية الدولة فقط كصفة وكهوية.

الملاحظة الخامسة: بدا الدستور بمواده المائة والخمس والتسعين خاضعا لأحكام المادة السادسة التي جعلت – عمليا- كل تصرفات السلطة خاضعة لرقابتها، لأن السلطة تدير شئون الدولة عن طريق المخرجات التى تتلخص في التشريعات والقوانين واللوائح والقرارات، وهذه كلها ينبغي عليها أن تمر من خلال بوابة الحرام والحلال والمباح والمكروه من قبل الشريعة التي يفسرها المفتون والفقهاء والمحتسبون ومراكز البحوث الدينية.

الملاحظة السادسة: لقد رسم مشروع الدستور، الذى يستظل بالمادة السادسة، ملامحَ لدولة لاهوتية بقشور مدنية  فالتعليم "يبنى على مناهج بما يتفق مع تعاليم الدين الإسلامي" والاحكام لا تصدر باسم الشعب بل "باسم الله الرحمن الرحيم" كذلك اقتضت سطوة المادة السادسة أن كل النصوص التي تتحدث عن عدم التمييز بين الليبيين  تذكر العرق واللون واللغة والجنس والميلاد والانتماء الجغرافي وتتحاشي ذكر الدين، وهذا يعنى أن أي مواطن ليبي غير مسلم في الدولة التي يرسم ملامحها هذا المشروع، ليس مشمولا بهذا النص وبالتالي فهو خاضع للتمييز. وقس على ذلك عضوية مجلس النواب والشيوخ والوزراء ورئيس الحكومة فكلها لا يكفي في من يشغلها أن يكون ليبيا بل يجب أن يكون مسلما.

الملاحظة السابعة: ينظر للدستور على أنه الضامن للقيم التي تتفق عليها الجماعة، ومن بين هذه القيم الديمقراطية كقيمة سياسية، غير أن مشروع  الدستور بكل مواده المتعلقة بالسلطة وممارستها تجنب ذكر هذا المصطلح مثلما تجنب  قبلها ذكر مصطلح الدولة المدنية ولم يرد هذا المصطلح سوى مرة واحدة بشكل عرضي وخال من المعنى وذلك في المادة الثالثة والأربعين عندما نصت على أن "الدولة تضمن للمواطنين ومنظمات المجتمع المدني في مجالات نشاطها حق المشاركة الديمقراطية .."  ولعل ذكرها في هذا الموضع غير الضروري هو  للتغطية على إسقاطها من كل المواضع المتعلقة بالسلطة  والثقافة وعدم النص عليها صراحة  كقيمة سياسية وثقافية تسعى الدولة إلى ترسيخها. وبصرف النظر عن الحديث عن انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية والتي قد يعتبرها البعض تطبيقا للديمقراطية كآلية دونما حاجة لذكرها بالإسم، ولكن في الواقع يجب أولا ملاحظة أن هذه الانتخابات تجرى تحت سقف النصوص الدينية وبما لا يتعارض معها، وليس أدل على ذلك من اشتراط  أن يكون المترشح لهذه المؤسسات مسلما ولا تكفي جنسيته الليبية وحدها.  

وهذا لاشك يعد استجابة لعدم المساواة بين المواطنين لأسباب دينية، مما يجعل المادة الثالثة عشرة من المشروع والتي تنص على المساواة بين الليبيين في الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية، لغوا وباطلة دستوريا لتعارضها مع أحكام الشريعة التي لا تساوي في الحقوق بين الذكور والإناث ولا بين المسلم وغير المسلم.

لاشك أن المادة السادسة السرمدية التي أقرتها اللجنة التأسيسية، لا تطيح برؤوس جميع مواد هذا المشروع فقط، بل في حالة الموافقة عليه، ستلاحق أي دستور آخر يكتبه الليبيون  الى آخر الزمان.