Atwasat

سؤالٌ ليس متأخراً

جمعة بوكليب الخميس 29 أكتوبر 2020, 02:12 صباحا
جمعة بوكليب

الأغاني ليست سوى قصص وحكايات تُروى مُغنّاة. لكنّي قبل سماعي أغنية السيدة نجاة الصغيرة (ساكن قصادي وبحبه) لم أكن على وعي وأدراك بالعلاقة بين الاثنين، ولا أعتقد أنني كنتُ الوحيد، وقتئذ، بين نظرائي وأندادي في ليبيا. فالاغنية المذكورة، رغم ما يخيّم عليها من حزن واحباط وألم، كانت هي من جَسّرَ الهوّة العميقة تلك، في عقلي، بين الأغنية والحكاية.

«ساكن قصادي وبحبه» أغنية تَروي قصة حب من طرف واحد، ممثل في فتاة تقع في حب جار لها، يسكن في بيت مقابل لبيتها، وما تبنيه في خيالها من أحلام، إلى أن يصدمها الواقع فتستيقظ من أحلامها، ذات يوم، على زواجه من فتاة أخرى، فينهار ذلك الحلم دفعة واحدة فجأة مثل كثيب رمل.

كنتُ في مرحلة مبكرة من عمري، وكنتُ أسمع، عبر المذياع، السيدة نجاة تغنّي تلك الأغنية، فتشدّني الحكاية، وأظل أتابعها تاركاً لخيالي رسم مشاهدها، مرافقاً جموح خيال الفتاة وهي تبني حلمها الجميل، يوماً بيوم، في الاقتران بذلك الجار الوسيم، الذي، للأسف، لا علم له بوجودها.

قصّتي مع الأغنية تلك، والتصاقها بذاكرتي لا تتوقف عند ذلك الحدّ. ذلك أنني كنت أسمع الأغنية تبث عبر موجات الأثير، معتقداً أن كلمة (قصادي) التي تعني أمامي أو قبالتي، والتي تنطقها المغنية باللهجة المصرية (أوصادي) تعني قلبي أو فؤادي. ورغم الفارق الملحوظ بين المعنيين في الكلمة، إلا أنها «مشتْ معاي» بشكل عادي. فالجار الحبيب الموعود -حسب فهمي آنذاك- لم يكن يسكن قبالتها بل في قلبها: وهل أحلى وأبهى من سكن الحبيب في قلب المحب؟ لكن حين دخل التلفاز بيتنا تغيّر الحال، وشاهدتُ، ذات يوم، على شاشته، السيدة نجاة، واقفة في بيتها، بجانب النافذة، تراقب جارها -حبيبها الموعود، في تحرّكاته داخلاً وخارجاً من بيته، ثم حسرتها في يوم عرسه. وهناك، عرفت المقلب الذي أوقعني فيه عدم إلمامي باللهجة المصرية، وعرفتُ، تلك اللحظة، أن كلمة «أوصادي»، منطوقة باللهجة المصرية هي «قصادي»، أي قبالتي. لذلك، وحتى يوم الناس هذا، كلما سمعتُ الأغنية أو تذكرتها تتفتق ابتسامة مُرّة قليلاً على شفتيّ. ولم أجرؤ مطلقاً على البوح بالمطب الذي أوقعت نفسي فيه لأحد من قبل، من شدة خجلي على ما يبدو.

ما دعاني للحديث عن الأغنية ليس المقلب الذي شربته مُرّاً، من دون سُكر، ولكن حقيقة أن الأغنية المقصودة – القصة الحزينة، التي تتبع مشاعر صبية عاشقة وحلمها، ثم انهيار صرح ذلك الحلم فجأة، لم تكن مؤلفتها امرأة، بل كتبها رجل، هذا أولاً. أما ثانياً، وحسب معلوماتي، فهو أن أهم كتّاب الأغنية المصرية، الذين عرفتهم، رجال، ولا علم لي بوجود امرأة بارزة بينهم، وسأكون ممتناً جداً لكل من يبدي رأياً مخالفاً من القرّاء، ويتدخل مصححاً أو مذكراً ومنبّهاً. وثالثاً، كيف تغيب المرأة المصرية عن ساحة تأليف الأغاني -رغما عن العلاقة الوجدانية الوثيقة بين المرأة والغناء عموماً- في حين أنها حاضرة منذ زمن في الساحة الثقافية والفنية المصرية بمختلف تنوعاتها وأشكالها؟ رابعاً، وهذا مربط الفرس، كيف تظهر في ليبيا مؤلفة أغان موهوبة، تنافس أبرز مؤلفي الأغاني من الرجال، اسمها بنت الوطن -هي المرحومة السيدة خديجة الجهمي- وتؤلف أغاني على مستوى فنّي راق، ما زالت تردد إلى اليوم، تثري بها وجداننا وتعيش في قلوبنا، ولا تظهر نظيرة لها في مصر، آخذين بعين الاعتبار الفارق الحضاري بين البلدين والساحتين الثقافيتين؟

الحقيقة أن المرحومة خديجة الجهمي ظاهرة فريدة، لم تتكرر في ساحتنا الثقافية والفنية الليبية، لكنّي لا أعرف مؤلفة أغان في مصر نظيرة لها، يتغنى بأشعارها الغنائية كبار المطربين: أليس الأمر مدعاة للاستغراب، ولافتاً للانتباه، ومثيراً للتساؤل؟ وكيف حدث؟

أنا لا أملك إجابة، وأعتقد أنني لا أجانب الصواب إن قلتُ إن غيري كثيرون بإمكانهم تصحيح ما أسلفته من معلومات ورأي، أو قادرون على تقديم تفسير يمكننا من فهم الأسباب، ووضع الأمور في سياق تاريخي موضوعي نستوعبه.
فهل من مبادر؟