Atwasat

أيديولوجيا أحمر الشفاه!

سالم العوكلي الثلاثاء 27 أكتوبر 2020, 10:42 صباحا
سالم العوكلي

حين كنا نصدر صحيفة الأفريقي العام 1993، وفي سياق الكوميديا (الخضراء) المهيمنة على البلد في ذلك الوقت وقبله وبعده، حدثت طرفة متعلقة بالجمعيات الموزعة للسلع المدعومة، حيث فوجئ المواطنون باحتواء حصتهم من الجمعية على أصابع أحمر شفاه تباع قسرا مع حصتهم من السكر والطحين والزيت والطماطم المعلب.

وكتب الصديق الشاعر عبد السلام العجيلي وقتها مقالة تهكمية حول هذه الحادثة الساخرة من مجتمع برمته، وأثنى في هذا المقالة على أمانة الاقتصاد التي تفطنت لمسألة الجمال أخيرا، وجمال الشفاه خصوصا، ولربما ستقيم مستقبلا مسابقات حول أجمل شفاه في (الجماهيرية)، ثم استدرك قائلا: لكن توزيع هذه السلعة سيترتب عليه إنجاب الكثير من المواليد، ومن سيتحمل مصاريفهم؟ إلا إذا كان في تصور أمانة الاقتصاد توزيع أقراص مانعة للحمل في الخطة المقبلة. أرفقت المقالة مع رسم كاريكاتير للفنان فتحي الشويهدي حيث كل زبون يخرج بإصبع أحمر شفاه ومكتوب على الواجهة "جمعية الهوى هوايا".

ونشرت المقالة كتجاوب مع حس الفكاهة المنتشر في الشارع وفي كل مكان. غير أننا فوجئنا (أو لم نفاجأ في الواقع) باستدعائنا للأمن الداخلي، وحين دخلنا مكتب مديره وجدنا أمين اللجنة الشعبية للاقتصاد في درنة جالسا بقرب المدير، وأدركنا لحظتها أن الأمر يبدو شخصيا ولا يتعلق بتهمة سياسية أو بتهديد الأمن القومي أو التآمر على ثورة الفاتح، وتحدث مدير الأمن عن كون الرجل (زعلان) منا، ويريد رد اعتبار أو اعتذارا، وأنه جاء لمكتبه هذا الصباح ولم يستطع أن يعمل لأن الهاتف كان يرن باستمرار والمتصلون المجهولون يسألونه عن متى يوزعون مانع الحمل؟. المهم دار حديث طويل أكد خلاله مدير الآمن أن الأمر ليس رسميا واعتبِروه (ميعاد عرب) كما قال، وكل ما يطلبه أن تنشر الصحيفة اعتذارا لأمين الاقتصاد. ولأن الاعتذار غير وارد لدينا اقترحنا أن يرد بمقالة تنشر في الصحيفة.

بعد يومين وصلتنا مقالة من الأمين الزعلان، تطرق فيها إلى كون المرأة هي نصف المجتمع، وتوفير متطلباتها مهم، وثورة الفاتح مناصرة للمرأة، وغيرها من المنافحات النسوية التي كُتبت بشكل رديء، وكأن المرأة التي تعجز عن تحريك شفاهها للمطالبة بحقوقها لا ينقصها سوى هذه السلعة، التي اتضح فيما بعد أنه منتج إحدى مصانع الاستثمار الليبي في المغرب، ولأنها سلعة كاسدة، ولا تستطيع المنافسة، تكدست في مخازن الاقتصاد، فاقترح الخبراء أن توزع إجباريا على المواطنين عبر الجمعيات الاستهلاكية في إطار تشجيع الصناعة الوطنية. ورغم أن اللون الأحمر في وقتها يحمل تهمة، ظَلَّ أحمر الشفاه معفيا في بيئة تَحّول فيها اللون الأخضر إلى عقيدة قكرية، ولم يكن واردا صناعة أخضر شفاه انسجاما مع لون الأيديولوجيا الحاكمة.

ما ذكرني بهذه الحكاية القديمة، عنوان جزئي صادفني "أحمر الشفاه أيديولوجيا" وأنا أطالع كتاب "عتاد التفكير الناقد"* الذي انتهى من ترجمته نجيب الحصادي مؤخرا، حيث تحت عنوان رئيسي (مدرسة فرانكفورت: نقد الثقافة) يذهب مؤلفو الكتاب من خلال تحفيز "التفكير الناقد الذي يتخذ صورة "نقد الثقافة" والذي طوره فلاسفة مدرسة فرانكفورت، إلى محاولة فهم القمع والحرب عبر طرح أسئلة حول مصادرهما: "ماذا لو كانت مصادر الحرب والقمع أكثر انتشارا في المجتمع؟ ماذا لو أنها متجذرة في الجوانب الأكثر عادية من الحياة اليومية، في السلع الاستهلاكية، والأفلام، والموسيقى ووسائل الإعلام الأخرى، وعمليات التصنيع، والثقافة الصناعية-التجارية الاستهلاكية بوجه عام". ما يعيدني إلى محاولة استبطان حادثة أحمر الشفاه تلك دون أن أغالي في أهميتها الأيديولوجية أو أنقص منها، العلاقة التي توطدت في ذلك الوقت بين السلطة وزبائن القطاع العام، حيث تحكم النظام في رعيته عن طريقة السلع وتحكم في ذائقته، وقلص إلى حد كبير مساحة خياراتنا أمام تلك الوصاية من موردي القطاع العام على ما يجب أن نأكل أو نلبس أو نشاهد أو نركب، كانت جزءا من تكتيكات تهيئ الناس للانصياع والإذعان، واختزال قيمة المواطنة و المواطن في صيغة (زبون الدولة)، ولأن الكتاب يحث على إعمال التفكير الناقد في كل شؤوننا المعرفية والحياتية، يتطرق إلى مسألة "الصناع المصنوعون" مشيرا إلى أن النقد يمارس أعمق مما توحي به الأشياء الأليفة، وأن المصنوعات المرتبطة بثقافة المجتمع لا تشرعن كل ما يجعلها ممكنة فحسب، بل تسهم في تشكيلنا نحن أيضا، وهي تشكلنا بطرق غالبا ما تقود إلى سلوك عنيف وقمعي". وإن "العملية التي تتمخض عنها سلع استهلاكية تنتج بكميات هائلة – تنتجنا أيضا بكميات هائلة. والانضباط اللازم للعمل والاستهلاك وحتى المشاركة في متع مصنّعة (أفلام، حدائق للتسلية، وألعاب حاسوبية) يتطلب أناسا منضبطين ومنظَّمين؛ وهذا التنظيم يهيئهم لقبول الأنظمة المنضبطة والمنظِمة للحروب، والشرطة، والتحكم التي تميز الشمولية، إلخ. والتزلف الذي يُعوَّد الناس عليه إزاء المشاهير هو الذي يهيئهم للافتتان بقادة البلاد.".

يجادل الكتاب في مثاله المتعلق بأحمر الشفاه، مستشهدا بتحليل ثيودور أدرنو، بأن أشياء من قبيل أحمر الشفاه هي نفسها أيديولوجيا. "ولم يكن يعني من هذا ما جادل به نقاد نسويون وآخرون – أن قواعد الجمال الأنثوي (مثل المطالب الاجتماعية باستخدام المرأة أحمر الشفاه) قد تكون ضارة وقمعية، بل قصد إنه يتضح أن الشيء اللامع، البلاستي، المصقول، المنتج بكميات هائلة، والذي يسمى أحمر شفاه، قد صنِّع وبيع عبر عملية صناعية، رأسمالية حديثة، ضخمة، ومنضبطة تماما. وخصائص أحمر الشفاه، ككونه أملس، ولامعا، وبراقا، ومغريا جنسيا، والمتعينة في الملايين التي بيعت منه، تعلن هي نفسها عن القصة وراء الإنتاج الشامل الذي يستخدم مكاتب، وطرقا، وشحنا، وعملا بالأجرة، وصناعة تقنية، وإعلانات، ومراكز تسوق، ومجلات نسائية، وكهرباء، ووقودا حجريا، ومؤسسات موضة تسهم جميعها في أحمر الشفاه وتجعله ممكنا. باختصار، يشرعن أحمر الشفاه المجتمع الرأسمالي الحديث بوجه عام ويجعله موضع اشتهاء. وأن ترغب في شيء هو أن ترغب في العلاقات الاجتماعية التي تنتج موضع الرغبة، أو تنتج مرغوبية الشيء. ولهذا يجب على المتفكر الناقد أن يعمل على فهم الأيديولوجيات التي تؤسس لأشياء الحياة اليومية المحيطة بنا ولشبكات الرغاب التي تُغمر فيها هذه الأشياء ونغمر معها فيها". يندرج هذا بشكل أو آخر على النظم الديمقراطية في الرأسماليات الكبرى، غير أن دلالاته في المجتمع الجماهيري المتهكم على كل الأطروحات االأخرى لا تعدو أن تكون نكتة تسيطر على الشارع لفترة حتى تجتاحها نكتة أخرى.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، تذكرت جزئية لا تبتعد عن هذا السياق وردت في كتابي "بنات الغابة" الذي انتهيت من كتابته نهاية تسعينيات القرن الماضي ونشر العام 2006، حيث أتوقف قليلا عند الشفاه في صدد تأملاتي في الجسد الإنساني مُشرّحا على طاولات السوق: "... الأمر الذي أوصل الشفاه لأن تكون مصدر إلهام مصانع المكياج .. حيث غدا رسم الشفاه ونفخها بالسيلكون إحدى أهم مكونات الجمال في هذا العصر الذي يتجه بأكمله إلى عضو الشراهة كسوق نهمة لا تشبع .. لقد أصبح الفم الأنثوي عضو التوهج اليومي للكرنفال والأعياد والأعراس ... وأصبح يُنظر للفم الصامت باعتباره مصدر لذة وتمهيداً لمتعة منتظرة، ومن ثم تجريده من دوره كناطق للحكمة أو مرافع عن اضطهاد الجسد الأنثوي، وشهرزاد التي كانت تستغله للسرد طوال الليالي هامسة في أذن السلطة إمكانية أن تستمر في العيش، كان فمها يقوم بدوره المروض والمشبع لصلف السلطة. كان فم شهرزاد لسان حال رغبات شهريار، وليس رضاه عنها سوى رضاه عن نفسه من خلال الحكايات التي أراد لها أن تكون شاهداً على المرأة ككائن خيانتي".
* عَتاد التفكير الناقد. تأليف: غالين أي. فورسمان، بيتر س. فوسل، جيمي كارلين واتسون. ترجمة: نجيب الحصادي. قيد الطبع.