Atwasat

استبداد (الموضة)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 25 أكتوبر 2020, 12:59 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

منذ أن أدت مخاضات التطور الطبيعي إلى ظهور النوع الإنساني، أخذ هذا النوع المستجد يسعى إلى التحرر من سيطرة الطبيعة عليه وقهرها له. في البداية لم يكن يختلف، في هذه الناحية، عن زملائه أعضاء المملكة الحيوانية، من حيث البحث عن المأوى والمأكل ومصادر الطعام. إلا أنه تطور بعد ذلك من خلال اكتشاف النار وتدجين الحيوانات ذات النفع واستئناس النبات، أي اكتشاف الزراعة.

وحين أحرز قدرا واضحا من التحرر وكون المجتمعات وضع نفسه تحت سيطرة قيود أخرى، هي قيود الأعراف والتقاليد والقيم الجماعية. فصارت محاولة الفرد الخروج عن قيم الجماعة (= القبيلة) ومعتقداتها وأعرافها وتقاليدها مدعاة إلى نبذه وطرده ورفع حصانة الجماعة عنه.

وبذا نشأ نوع من السعي الجدي باتجاه التحرر. إلا أنه هذه المرة لم يكن جماعيا، وإنما صار فرديا، وأصبحت له أثمانه الباهظة وتبعاته الفادحة.

فالإنسان، كلما أحرز تقدما في مسعاه التحرري يجد أنه قد وضع نفسه تحت كوابح قيود جديدة. فهناك قواعد التعامل مع الكبار ومع الغرباء والضيوف، وهناك قواعد ما يسمى بـ "الإتيكيت"، التي يتعرض الفرد الذي يخرج عنها إلى السخرية والنبذ.

ورغم أن الموضة، في أساسها، تعتبر تمردا على تقليد مظهري مسيطر، إلا أن كل موضة مستحدثة تنشيء قيودا طغيانية جديدة. فالموضة تمثل دكتاتورا استبداديا.

فالشاب الذي لا يحلق شعره على نمط معين، أو لا يلبس لباسا حسب التقليعة المسيطرة، ينبذ، أو على الأقل يهزأ منه، من قبل المجموعة الشبابية التي يتعامل معها. وبالنسبة إلى النساء تمارس الموضة استبدادا أنكى، خاصة في المجتمعات التي لم تنشأ داخلها الموضة. ففي المجتمعات الأوربية، مصدر الموضات، هناك نوع من الحرية في اتباع الموضة أو عدم اتباعها. أذكر أنني قرأت منذ سنوات بعيدة استطلاعا في إحدى المجلات العربية عن هذا الموضوع، وأذكر أن امرأة لبنانية قالت أنها لم تشعر بالتحرر من قيود الموضة وأنه يمكنها ارتداء ما ترغب في ارتدائه إلا عندما ذهبت إلى فرنسا.

مؤخرا عثرت على مثل شعبي من أمريكا اللاتينية يعبر عن هذه الفكرة تعبيرا بليغا. يقول المثل:
"الموضة أكثر تسلطا من أي طاغية".