Atwasat

وديان..

سالم الكبتي الأربعاء 21 أكتوبر 2020, 09:51 صباحا
سالم الكبتي

الشموس والأقمار. النهارات والليالي والأيام الغاربة. والذكريات. والأطلال تلوح. والديار البائدة. والشعراء هنا وهناك يستنطقون المرئيات. يتحدثون معها. يتناقلون معها الأخبار والروايات.. أساطير وحكايات تغزلها الحروف على مر الأعوام .

والزمن يمضي. وتظل القصائد لوحات وصورا. الشعر أقوى بتعابيره ويسكن القلوب على الدوام. والوديان ليست مظهرا من مظاهر السطح في الجغرافيا وفوق الأرض المنبسطة أو الملتوية. إنها عالم آخر يوحي للشعراء على وجه التحديد بالكثير. الوديان تنتشر. تبقى. تفوح منها رائحة وعبق القديم. حتى وإن جفت. حتى وإن بدت قاحلة مهجورة الضفاف. تظل صورها وذكرياتها القديمة في البال. يقيم حولها بشر. ويرحلون. ويعودون إليها. ينطلقون منها. الوديان لوحة لحياة كانت. ذكرياتها التي مرت تثير الشجن والحنين. يجول الشعراء. يتذكرون .

وفي لحظة واحدة تنهمر الصور وتنثال القصائد :
(تعال خبر ياسوف الجين .. ع القديمين .. عرب كانت تعرفها وين)
وآخر يهتف بقوة :
(ياوادي يدير مناقير...... اسماك شهير.. تبقى ونجوك على خير)
ثم :(ماتقول كانك ريت يامعزول .. نواجع ملن لرقاب عرض وطول)
ثم أيضا :
(اليوم خاليه ماعاد والي فيها ..... هلها اللي ديجوجهم ماليها)
محاكاة ومخاطبات واستفهمات وأحاديث مع الوديان والأطلال والذكريات الحاكي يستلها كل شاعر ويستدعي القديم. ويجدده. ربما يبكي. ربما يعتريه الخوف. ربما يؤخر رجلا ويقدم أخرى. ربما يكثر من الالتفات والنظر بلا انقطاع، ولكن يظل يملؤه الشوق والحنين أمام تدفق ذكريات تلك الوديان.
ربما يكون وحيدا. ربما وربما. ربما تنهض بنات الجن وتنشر الذعر والرهبة. لكن الوديان تظل عنوانا لحياة كانت. ليست جمادا أو مظهرا من مظاهر السطح والجغرافيا. رغم الوحشة والفقد. الوديان حياة ومياه وخضرة وحركة. وأحيانا عطش وقيظ وجفاف وسكون ومجهول قادم آخر الليل ينذر بالسيول والتدفق .
.. وآخر يتحدى شعراء آخرين تحرشوا به واستفزوه بعد عودته من ديار الهجرة إلى بلاده. هتف من أعماقه متحديا ومهددا ومفاخرا بنفسه :
(وادي جا من بشا سايل .. دار هوايل .. فوق الموج أشجاره شايل)
..
(وادي جا يطفر من بشا .. واعر خشه .. ع الجالات عذاه وقشه)
(حقا بمركب مايتمشى .. جا متكايل .. خلا لفلوكات دقايل)
..
(وادي جا من بشا جاري .. عونه ساري .. كان فيض يملا الصحاري)
(قدره من من قدرات الباري .. فيه مسايل .. ماله في الوديان مثايل)
..
والتحدي واضح هنا غير خاف. إن الشاعر يشبه نفسه بالوادي الكبير العظيم الذي يشق الصحارى والأراضي ويكتسح مافي طريقه دون خوف ولا مثيل له في الوديان الأخرى. هنا نموذج للشاعر الوادي الهادر عبر التاريخ الذي يسخر من المزيفين والمزورين والضعاف. كلماته وحروفه أقوى من سقط المتاع الذين يحاولون مواجهته فيصابون بالخيبة ويولون الأدبار. أقسى الهزائم هي الهزيمة المروعة أمام الكلمة .
تعيش الوديان في الشعر. تحكي. وفي القديم أيضا نهض وادي العقيق.. وعرار نجد. هيجا دائما الذكريات والشعراء. اصوات الماضي تقرع الحاضر. وتستنهض همم الوديان صباحا ومساء. إيقاعات وأصداء وأهازيج.
.. ثم وادي ثقيف. صورة أخرى في المتخيل والواقع. عبدالله الفيصل أمير من الحجاز وشاعر. جده ملك. ووالده ملك. وأسرته مالكة. كان أميرا لمكة ووزيرا للمعارف ذات يوم في تلك البقاع. ضعف أمام سيرة الوديان وهديرها. هزته الأشواق. وهو الأمير الذي نظم (سمراء ياحلم الطفولة). (وثورة الشك). عبدالحليم والست. بعض النقاد اتهموه بأن ذلك ليس له. إنه من قول قائل آخر: أحمد فتحي. الشاعر المصري.. شاعر الكرنك.. حلم لاح لعين الساهر. الذي قضى جزءا من حياته في بنغازي. ونظم للست الأمس القريب. وعمل في البي بي سي في لندن وفي إذاعة جدة. وفارق الحياة وحيدا في غرفته بفندق كارلتون بالقاهرة بالقرب من دار القضاء العالي. وحيدا لم ينعه الأمير. لم يتذكره أحد. كان ذلك عام 1960 .
وظلت أطياف وادي ثقيف ربما أقوى من السمراء والشك تعيش في ضفاف حياة الكثير من الأجيال: (ياريم وادي ثقيف.. لطيف جسمك لطيف). أداها طارق عبدالحكيم ولحنها. أحد ضباط الموسيقي الكبار في الجيش السعودي. لكن أداء نجاح سلام في الخمسينيات بقي أقوى من أداء طارق ومحمد عمر ومحمد عبده. وعاش في ذاكرة الأجيال والوديان !!
ياريم وادي ثقيف. أيام .
الوديان العربية قاحلة. جافة. مهجورة. موحشة. مقفرة. لم تعد تلهم الشعراء.. أو أساطير الشياطين الجدد!!.