Atwasat

تسريبات هيلاري وسراب المستقبل

سالم العوكلي الثلاثاء 20 أكتوبر 2020, 01:50 صباحا
سالم العوكلي

حقيقة أستغرب ما يثار من ضجة حول رسائل هيلاري كلينتون المسربة بقرار من الرئيس الأميركي ترامب، التي تأتي تحت عنوان «تسريبات» رغم أنها تعكس سياسة معلنة للولايات المتحدة في المنطقة منذ عقود عديدة، وأقصد بهذه السياسة الدعم الواضح للإسلام السياسي الذي تسميه دوائر الفعل في الإدارة الأميركية «الإسلام المعتدل» كبديل مناسب في لحظة مناسبة. وهي قد تكون تسريبات بالنسبة للمواطن الأميركي، خصوصًا أنها تأتي ضمن تكتيك يرافق حملة ترامب الانتخابية، لكن بالنسبة لنا على الأقل لا جديد فيها، خصوصًا فيما يتعلق بعلاقة الإدارات الأميركية المختلفة والغرب عمومًا بتنظيم الإخوان المسلمين أو الإسلام السياسي عمومًا.

السياسة الأميركية مرنة وليست ثابتة، تتغير وفقًا لما يطرأ من تغيرات على واقع الملفات التي تتعامل معها، ومعيارها الأخلاقي الوحيد هو المصالح التي تحولت إلى صفقات في عهد ترامب، ولم يكن مخفيًا في أي وقت من الأوقات تدخلها المباشر أو غير المباشر في هندسة الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط ودعم الأنظمة التي تخدم مصالحها، واختياراتها ليست عشوائية أو مرتبطة ضرورة بما ترفعه من شعارات أخلاقية، لكنها تترتب عن تقارير استخباراتية ودراسات مراكز بحوثها المختصة التي تجس الرأي العام في هذه الدول ومدى شعبية التيار الذي عليها أن تدعمه، لأن أميركا تعرف أنها لا يمكن أن تعمل ضد التيار الشعبي مثلما وقعت في أخطاء من هذا القبيل في تعاملها مع ملفات في أميركا الجنوبية وآسيا إبان الحرب الباردة. وبناء على هذا الجس للوجدان الشعبي وميوله، دعمت في النصف الثاني من القرن المنصرم الانقلابات العسكرية، وهي تعرف تعطش الجماهير العربية المتحررة حديثًا من الاستعمار للتغيير وقتها وما يرفعه من شعارات تحررية، ولا يخفى على أحد كيف استُقبِلت شعبيًا تلك الانقلابات، وكيف أفضت إلى نظم شمولية استمرت علاقة الإدارات الأميركية المتعاقبة معها ــ حتى حين تبنت الاشتراكية ــ طالما مازالت تحقق مصالحها.

ولا يخفى على أحد أن تعامل المكتب البيضاوي مع هذه الجماعة بدأ منذ خمسينات القرن الماضي، والتواصل المباشر الذي تم بين الرئيس إيزنهاور وهذه الجماعة عبر سعيد رمضان صهر حسن البنا، ووالد الداعية الإخواني طارق رمضان، إضافة إلى تلك البعثة التي تلقاها سيد قطب للدراسة في أميركا عن طريق السفارة الأميركية ليعود بعد سنتين بما عاد به من صلف وتطرف. وجاء هذا التعاون كاستراتيجية لمقاومة انتشار المد الشيوعي في هذه المنطقة.

في هذا السياق، وبناء على ذلك التواصل، يقول الباحث المختص في التنظيمات الإرهابية عمرو فاروق، لـموقع «حفريات»: «إن الولايات المتحدة قدمت دعمًا ماليًا وتنظيميًا للإخوان اعتمد على محورين: الأول في تبني توسيع أنشطة الإخوان في أميركا وأوروبا، وتقديم التسهيلات والدعم المالي اللازم لذلك...»، ويرى فاروق أن «الولايات المتحدة دعمت المجاهدين الأفغان في نهاية السبعينيات، لأن الفكر الإخواني كان يمثل منطلقًا إيديولوجيًا للكثير من هؤلاء المجاهدين».

 ومن جديد انتبهت مراكز البحث والتقصي لأهمية التنظيم؛ الذي احتضنته لعقود ديمقراطيات الغرب، منذ الزلزال الذي حدث في مصر العام 1992، وما قدمته جمعيات هذا التنظيم من خدمات للناس تحت وطأة الكارثة في غياب مؤسسات الدولة، وبعدها بدأت إدارات الولايات المتحدة، عبر كل رؤسائها الجمهوريين والديمقراطيين، في التعامل معهم بجدية كاحتياطي استراتيجي لسيناريوهاتها المستقبلية في المنطقة، ومنذها كانت دوائر الرصد المصرية تحس بقلق من الاجتماعات المتواترة مع عدة سفراء للبيت الأبيض في القاهرة، ما أدى إلى ضغوط تمخضت على أن يحصل التنظيم على 88 مقعدًا في مجلس الشعب في انتخابات العام 2005، التي لم تخلُ من العنف، وتم كل ذلك من خلال جس مراكز الاستشعار الأميركي لمدى شعبية التنظيم في المجتمع وقاعدته العريضة، حيث استثمر في الفقر والتهميش ودغدغة الوجدان الديني الشعبي في تكوين هذه القاعدة. فالسياسة الأميركية تراهن على البديل المناسب وتدعمه ــ كما يتضح في رسائل هيلاري وفي سياسات دول أوربية أخرى ـ وهي تدعمه لأسباب تتعلق بمعرفة مسبقة بقبول هذا التيار في الشارع، ومن أجل احتوائه مستقبلًا عبر هذا الدعم والتحكم فيه.

منذ ثورة 23 يوليو تراوحت العلاقة بين السلطة والجماعة بين مد وجز، وعبر كل الرؤساء السابقين كان يقترب الأخوان من دوائر السلطة ثم يوضعون في السجون؛ قبل حتى أن تولد هيلاري. وما حصل بعد ثورة يناير مشابه وإن اختلفت المعطيات. وصل الأخوان إلى الحكم لأول مرة ثم أعيدوا إلى السجن بعد أن انكشفت سياساتهم الفاشلة كتنظيم نهم يريد الانفراد بكل شيء. ولو أن ثمة تيارًا ليبراليًا أو حتى يساريًا يملك النفوذ والانتشار والتنظيم والقاعدة الشعبية نفسها، لدعمته أميركا من أجل احتوائه وتوجيه سياساته فيما يخدم مصالحها، فخيارات دوائر القرار السياسي في الولايات المتحدة تتغير وفق اللحظة المناسبة، وهذا سر حيويتها. فبعد دعمها لأنظمة الانقلابات العسكرية لعقود وصلت إلى البديل المناسب وهو نظام التوريث الجمهوري كمخرج آمن وباقتراح أن يكون جماعة الأخوان ذخيرة هذا التوريث، قبل أن تخلق ثورات الربيع العربي واقعًا آخر ولحظة أخرى.

لم تضع هيلاري أوراق الانتخابات في الصناديق عندما فاز هذا التيار في انتخابات «لم يطعن في نزاهتها» في كل من مصر وتونس؛ رائدات الربيع العربي، لذلك علينا أن نبحث عن المشكلة فينا وفيما أفضت إليه نظم شمولية من نتائج بعد عقود من حكمها، ولا نعلق كل أزماتنا على ما تسرب من رسائل هيلاري التي سوف لن تختلف عن رسائل أي وزير خارجية سابق أو لاحق فيما يخص هذه الإستراتيجية، ولكن من سوء حظ هيلاري أنها وضِعت على منصة سوق المزادات وحدها، وأن ترامب، المستعد لأن يستخدم حتى الشيطان في الحفاظ على منصبه لفترة أخرى، استخدم رسائلها بطريقة موجهة إلى شرائح كبيرة في الداخل الأميركي مصابة بفوبيا الإسلام، التي غالبًا لا يهمها متابعة تفاصيل السياسات الخارجية للبيت الأبيض .

والمشكلة ليست في إدارة ترامب ولا في رسائل هيلاري الشخصية، لكن فينا نحن، وفي ظاهرة اللاوعي السياسي الشامل المؤجج بوجدان ديني الذي أوصل الأخوان إلى السلطة عبر الصناديق في مصر وتونس، وعبر استخدام العنف اليمن وليبيا وسوريا. ومشكلة هذه القطاعات الكبيرة من مجتمعاتنا أنها مازالت ممتثلة للفكرة الجوهرية التي يحملها الأخوان المسلمون، وهي المراهنة على الدين فقط كمخرج من كل أزمات المنطقة، وحتى من يكره الأخوان حاليًا ويشتمهم محتفظ بهذه الفكرة في داخله، وكان اصطدام الشارع مع هذا التنظيم، في مصر وتونس، من خلال إدارتهم للشأن العام حين وصلوا للسلطة وليس مع جوهر أفكارهم المختزل في كون «الحل هو الإسلام» ، وهو رأي تبنته إدارات أميركية متلاحقة بتعديل بسيط «الحل في الإسلام المعتدل»، طالما يخدم مصالحها، وطالما رؤيته الجوهرية حيال تسييس الدين سائدة عند شرائح مجتمعية غالبة. وهنا مكمن الخطورة، وليس رسائل هيلاري التي كما قلت لم تضع أوراق انتخاب مرسي أو الغنوشي في الصناديق حين أتيح للشعوب أول مرة اختيار ممثليها. وهذه الفكرة هي التي تنتج كل مرة هذا الورع تجاه أي حاكم يأتي ويملأ خطاباته بالتسبيح والأدعية، وطقوس التبجيل والتقديس ذات الجذر الديني مع كل حاكم سواء أجاء عن طريق العنف أو الصناديق، مخلصين لأطروحة تيارات سلفية بكل أجنداتها التي تتراوح بين تكفير الحاكم أو طاعته العمياء، وهذا الهوس الشائع بالدين كحل وحيد «أو مصدر وحيد» هو ما يجعلنا حتى الآن نلاحق سراب المستقبل أو مستقبل السراب.