Atwasat

مآلات السلفية

رافد علي الثلاثاء 20 أكتوبر 2020, 01:47 صباحا
رافد علي

حالة الشقاق الفكري في أمة الإسلام برزت تاريخياً ضمن التيار السني على مستوى مدرستي الرأي، التي اشتهر فيها الإمام أبوحنيفة، ومدرسة الحديث التي كان للمالكية والحنابلة دور بارز في ترسيخ عمادها، إلى جانب الشافعية صاحبة الفضل في تقنين أصول الفقه الإسلامي. واجه إمام الحنفية بسبب آرائه وإعماله للعقل جبروت الحنابلة وأهل الحديث من ضرب بالحصى على وجهه، ومن تشنيع بشخصه، والحكم عليه بالكفر. واجه الإمام الحنفي كل هذا في وقت كانت فيه بغداد مركزا ثقافيا يعج بألوان الطيف الفكري والمذهبي، إذ يسجل التاريخ في تلك المرحلة من تاريخ بغداد أنه قد ضاق البشر والسلطان بنشاط الحنابلة التعسفي دينياً على العباد، إذ بث حاكم بغداد بياناً يحذر الحنابلة من تشددهم في ممارسة "الامر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فقد ركب الخرشني، قائد الشرطة في بغداد، عاشر جمادي الآخرة 323 هجرية، منادياً في أهل بغداد ضد أصحاب البربهاري الحنابلة. الشيخ البربهاري له إسهاماته في صيرورة وكينونة التشدد الحنبلي والسلفي عموماً، فهو لم يتردد في رفع اسم الخليفة علي بن أبي طالب، في كتابه شرح السنة، من قائمة "خير رجال هذه الأمة بعد نبيها" نكايةً في الشيعة لأنهم بالغوا في محبة الإمام علي، بما يصدم بذلك السنة قبل الشيعة كما يذكر وحيد الغامدي في كتابه حكاية التدين السعودي عن دار طوي 2015.

محنة أبوحنيفة مع الحنابلة، كصاحب رأي يُحكم العقل في فهم النص وتأويله تماشياً مع عامل الزمن، يمكن اعتبارها ملمح انطلاق النسق التربوي الذي تقوم عليه أخلاقيات مدرسة الحنابلة أو السلفية لاحقاً من تزكية الذات في حفظ الدين عن سواها من طرق ومناهج ومذاهب دين، سيتشربها الناشئ المحافظ في المدرسة الحنبلية تحديداً كونها رحم التشدد الإسلامي كما هو شائع. فالحنابلة تشددهم يأتي من اعتقادهم بأنهم الطريق الأصلح دينياً لأسلوبهم في فهم الحق، وما خصومتهم للآخر إلا لأنهم احتكروا اليقين ضمن أدبياتهم العقائدية التي لم تخلُ من المزايدة علي الدين وأحكامه، مما عزز نظرتهم الدونية لمن سواهم باعتبارهم خارج إطار الدين، مالم يتمسك هذا الآخر في المظهر الخارجي من ثوب ولحية. ولعل هذا ما يفسر مدى سهولة إطلاق أحكام التكفير على المُخالف لهم لا في شق العقائد وحسب، بل وفي تفاصيل صغيرة كما في الملبس وفي التخلي عن "جهاد البدع" كما في الاحتفال بالمولد النبوي، أو في زيارة القبور والأضرحة، رغم أن الوقائع التاريخية ثتبت أن الحنابلة كانوا يزورون قبر الشيخ ابن حنبل ويتبركون به، وينسبون لذات الشيخ الكرامات وصفات الأنبياء، كما جاء في كتاب الخليفة المرضي في بغداد.

حالة عدم الانسجام مع الآخر المختلف مع الحنبلية ببغداد التعدد الثقافي والتنوع الفكري، مرحلة تاريخية من الواجب الوقوف عندها كونها مرحلة تكشف عن ملامح الحس التربوي للتيار السلفي بشكل عام، من حيث تعاملهم مع الآخر ومنهاجهم في عدم السِعة في تبادل الآراء والأحكام لا في العقائد وحسب، بل كما ذكرنا سابقاً، في التفاصيل الجزئية كالتي يلجأ السلفيون للتصعيد فيها ضد الآخر المسلم بروح التغول والترهيب والإقصاء من المِلة كما في قضية عدم البسملة في الصلاة والزواج بالمسيحية أو اليهودية، تؤكد هذه اللا انسجامية عند الحنابلة بأنها أدبيات قامت كأسس تربوية دينية لا تتوانى في ممارسة العنف ضد المخالف ضاربة بعرض الحائط أي أساس يتبنونه كسلفيين أوائل كالصفح أو "التسامح". يفسر الغامدي التشدد الحنبلي وسرعة التكفير بأن الحنبلية لا يخلو سلوكهم في هذا من جانب عاطفي انفعالي متراكم أكثر من عقلية متفهمة ومتسامحة مع غيرها من أطياف تدين ومدارس فكر. طرابيشي في مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، عن دار الساقي، يشير لفكرة قد تفسر الحالة المتشددة للحنابلة كمدرسة كان نشاطها دائما تعبوياً موجها للعامة، وليس للنخبة كما في المعتزلة والأشاعرة. فالتكفير خلاصة حثيثات حكم يُرمى به على الملأ بلا ديباجة ولا تفاصيل فيتلقفها العامة من الشيخ وهو في "محرابه" بلا تفكير. يرى العديد من المهتمين بالسلفية على أصعدة مختلفة أن النهج التربوي للسلفية قد مر عبر النفير من الآخر بما يعلل سهولة إلقاء تهم التبديع والتكفير. فالحنابلة بعد أن تجاوز الشيخ أحمد بن حنبل محنته المعروفة تاريخياً لم يترددوا في تكثيف نشاطهم كحركة وكمذهب وصولاً لما يعرف تاريخياً بفتنة الحنابلة التي أثقلت بدورها البوليسي على أهل بغداد، وبما تجاوز سلطات الحاكم وشرطته بالمدينة في تناقض صارخ لمبدأ عدم الخروج علي الحاكم كركيزة أساسية للحنابلة والسلفية بشكل عام. كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير يحوي تفاصيل صريحة لممارسات الحنابلة الأوائل العنيفة ضد الآخر في هذه الحقبة التاريخية في بغداد تحت سلطان الخليفة الراضي.

الحنبلية ظلت تمّيز نفسها عن سواها بأنها أكثر سنية وترى في نفسها الأكثر تمسكاً بالعقيدة القويمة بحكم أنها كانت تعتمد على الحديث وعمادها في ذلك كتاب المسند لشيخها المؤسس أحمد بن حنبل، في حين أن الحنفية والشافعية والمالكية تعتمد على الاجتهاد والقياس ومبدأ الإجماع. بأكثر تبسيطاً، الحنبلية تمنح الأولوية للحديث حتى ولو كان ضعيفاً على أي اجتهاد فكري آخر، ومن هنا جاء المأثور بان "حديث ضعيف خير من رأي أبوحنيفة".
الحنابلة بعد سقوط بغداد على يد التتار لجؤوا إلى دمشق ذات الأغلبية الشافعية، لكنها في نشاطها الحركي كانت أهدأ بكثير كونها كانت تشكل أقلية أمام أغلبية شافعية في مذهب أضحى مثبت العمد، والتجديد فيه محدودا لارتباطه بالنقل وعدم التأويل، علاوة على تحاشي الحنابلة لفتح خط مواجهة مع جمهور دمشق في حينه كما يرى مايكل كوك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2013.

2
تأتي الأهمية التاريخية للحنابلة في دمشق خصوصاً، وللسلفية لاحقاً بشكل عام، في ظهور الشيخ ابن تيمية الذي كرس جهده الفقهي الغزير في ترسيخ التشدد العقائدي وتعزيز نهج التكفيريات بأسلوب يمنهج الأدبيات السلفية تجاه الآخر بتعسف غارق في النرجسية، لازالت ملامحه بيّنة حتي يومنا هذا باعتبار أن السلفية هي الدين الصحيح، وما عداها فهو ابتداع وخروج عن الدين. فالشيخ ابن تيمة بما دوّنه كحنبلي لا يشكل حالة ترسيخ لحالة تمايز حنبلي عن سواها، بل تعتبر المخزون النظري الذي ستستمد منه الوهابية لاحقاً أسسها التكفيرية ونهجها المتعالي والعنيف. الغامدي في كتابه المذكور أعلاه يرى أن معضلة الحنابلة أنها شيدت ترسانتها الفقهية كردة فعل آنية صرفة حشدت فيها رأياً مغايراً موظفة أدوات التشدد من تكفير وتبديع مُحرم لأجل نكران أي توجه مخالف تحت أي ظرفية. يقول الغامدي.:

"فالتأسيس العقدي عند الحنابلة ومن تلاهم من السلفيين لاحقاً استخدم ذات الطريقة في بناء الرؤى والتصورات العقدية والدينية، وهي التأسيس والبناء على الموقف العقدي والفكري من الآخر المختلف أكثر من تقديم رؤية فلسفية يمكن أن تحمل أي احتياج روحي تفرضه حاجة الواقع..."

لقد كان لتقسيمات ابن تيمة النظرية لقضية التوحيد أن منحت الحنبلية أولاً وللتوجهات السلفية لاحقا مرونة شديدة في إطلاق جماح التكفيريات نحو أي مخالف لهذه المفاهيم وبشكل قاطع بما يعزز حالة سطوة السلفية على مفهوم التوحيد واحتكار التشكيل البشري للدين بنمطهم التقليدي الجامد عند لحظة تاريخية محددة متناسين المرونة في مواجهة عامل الزمن حياتياً. لقد قسم ابن تيمية التوحيد إلى توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. توحيد الربوبية هو الإيمان بالله كونه الخالق والقادر والعاطي... إلخ، في حين أن التوحيد بالألوهية هو أن لا تجعل لله شريكاً عبر الشهادة بأنه لا إله إلا هو، له الأمر وله العبادة وحده. فالحنابلة يقرنون التوحيدين ويعتبرونهما ضرورة للإسلام كإيمان وكدين، وما عداه فعدم. فتوحيد الربوبية إيمان محله القلب ينصب على علاقة العبد بربه بشكل خاص ومباشر، في حين أن التوحيد بالألوهية يستوجب أفعالا ظَاهرة للوجود كإشهار. هذا التنظير للتوحيد تبناه الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليكتسب منه ذات الأدوات في تكفير من عداه وشن حروبا جهادية عليه كـ "كفر مؤسسي" مزعوم كما يبيّن خالد الدخيل في الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ببيروت. رسائل الشيخ عبدالوهاب التي تتحدث عن الشرك لا تفصيل لها لذاك الشرك في نجد أو الحجاز، وحتي الأسماء كاسم تاج وأولاد إدريس التي جاء على ذكرها برسائله في سياق تكفيراته تظل علاوة على أنها تكرار، فهي حالات شخصية عممها الشيخ بحسه السياسي الرامي لإقامة سلطان وولي أمر له الطاعة ضمن ادعاءات عامة تلح الحاجة اليوم على كل الإسلام لتحقيق مراجعة لها وتنقيحها بروح مستقلة، وبلا بواعث سياسية كما حصل في صيف عام 2017 عندما تعالت أصوات عربية متنوعة لتحقيق مراجعات لفقه ابن تيمية سرعان ما تلاشت عن المشهد بلا نتائج ملموسة حتي على مستوى الأكاديميات العربية على الأقل.