Atwasat

أشهر الباذنجان

محمد عقيلة العمامي الإثنين 19 أكتوبر 2020, 02:05 مساء
محمد عقيلة العمامي

كتبت مقالا، من قبل، اقتبست اسمه من مقال ساخر للأستاذ أسامه أنور عكاشة، بصحيفة الوفد المصرية، ذكر فيه أن القاهريين أطلقوا على شهر أغسطس: شهر الباذنجان! معللا ذلك بأنه شهر يعقب عودة موظفي ستينيات القرن الماضي من إجازات شهر يوليو السنوية مفلسين، فتتفنن زوجاتهم في إعداد وجبات قوامها الباذنجان لرخص ثمنه بسبب وفرته في أغسطس، ولكن يبدو أن أشهرنا كلها أصبحت "بذنجانية" اللون ولكنها ليست بطعمه ولا فوائده ولا سهولة تحضيره.

منذ الثلث الأول من شهر (البيضنجان)، يتطلع الليبيون إلى نتائج هذه المبادرات المعروضة من هنا وهناك وإلى خرائط طرق من وإلى الخروج من أزمتهم أومن ليبيا كلها، فهم مازالوا يصطفّون أمام المصارف، وأصبح رغيف الخبز (بسبعطاشر قرش) وعلبة التن بثمانية دنانير، ولتر (النافتا) بثمن عطر من (كريستيان ديور) ويبدو أن أشهر ليبيا التي كانت طوال سنوات مضت عجافا ستستمر كلها باذنجانا. ولكنهم متفائلون، إذ إنهم سوف يستقبلون والزهر والماء والبرد بفرحة اقتراب الفرج، مستبشرين بالطائرة التي وصلت أمس من طرابلس، وهذا شيء جيد فالأمل والتطلع إلى الانعتاق هو سر الحياة وتطورها.

تقول المراجع أنه في هذا الشهر كثيرا ما تقع أحداث خارقة منها العظيمة ومنها العنيفة ومنها المضحكة. دعوني أبتدئ بالمضحك، فلقد استوردت الأسواق العامة في بنغازي في آواخر سبعينيات القرن الماضي ملايين من (السواري والسراويل الليبية) باللون الأبيض والأزرق والأصفر، كانت وظيفتي في ذلك الوقت التخليص الجمركي لهذا الطوفان من الملابس الصينية والفول المدمس (الإيطالي) وحلوة بر الترك وزيتون كلماكا اليوناني وعصير راوخ النمساوي والشناني الكحله والحمراء والخضراء أيضا من تونس.

وكنت في زيارة إلى مخازن الملابس التي كان حينها صديقي المرحوم محمد البعباع مسئولا عنها. تحدثنا عن رفاق سوق الحشيش؛ عن شقيقه المرحوم عبد القادر البعباع الذي كان حينها مسجونا سياسيا، ولم ير النور إلاّ في "أصبح الصبح". كان محمد وكذلك عبد القادر، رفيقي صبا خليفة الفاخري وصادق النيهوم.

أثناء حديثنا جاءنا عامل أفريقي يرتدي (سورية وسروال) لونهما أبيض بالشاي. ثم عاد لنا (بأنصاص تن فيتنامي) بهريسه (تونسية) مرتديا قميصا ليبيا جديدا أزرق اللون، فنبهت محمد فأجابني ضاحكا: "عادي! سوف يعود وقت صلاة الظهر باللون الأصفر.. أكيد أنه سكب زيت التن على قميصه.." .فقلت له: "ولكن سيظهر عندك عجز عند الجرد" ضحك ثم أخذني إلى (هنجر بحجم مالطا) ممتلئ بأجبال من صناديق (القمصان أو السواري الليبية) ممهورة من شركة فيمس الصينية، وإن كان الخبثاء يسمونها باسم من وراء استيرادها. وقال لي ضاحكا: "جرد هذه الكميات يحتاج إلى كتيبة صينية، يا راجل غم؟ وراسك بلغتهم أن الخفراء يبيعون، في الليل، الملابس بعبوة السيارة وليس بالكرتونة".

صارت السورية والسروال الليبي، في ذلك الوقت أفضل ما يرتديه من يبحث عن الراحة في أشهر الحر والضجر والرطوبة الخانقة. واستدعتني الشركة إلى طرابلس للالتحاق بوفد تجاري إلى الباكستان للتعاقد على (عطريه)، وهي سلعة لم أكن أعرف عنها شيئا، فذهبت مباشرة إلى المرحوم خليفه البراني، الذي كان تاجرا متخصصا في هذه السلعة ويعرف أسرارها، فغادرته خبيرا في القرنفل والقرفة وحتى السواك والحناء. نصحني أن أخذ معي قمصانا ليبية لأنها لا تختلف كثيرا عن الباكستانية فهي مريحة ومناسبة للطقس هناك، وأيضا تعينك في التمويه؛ من تاجر غني وغبي إلى (نص باكستاني) وبالفعل أخذت معي عددا منها. وزيادة في الراحة والظهور بمظهر الليبي الشعبي المعتز بلباسه الوطني، اقترح رئيس الوفد أن نأخذ راحتنا على الأقل في الرحلة الطويلة بلباس مريح. ارتديت (سورية وسروال) ليبين. كانت الرحلة إلى روما ومنها إلى كراتشي، تأخرت الرحلة من طرابلس وبالتالي لم نلحق برحلتنا وتأجلت إلى اليوم التالي. أخذ الرفاق حقائبهم ولكن حقيبتي تخلفت في طرابلس، أخذتنا الشركة إلى فندق قريب من مطار روما.. وبدوت بالفعل كباكستاني في لباسي المضحك الذي زاده (شبشب الأصبع البلاستيكي) المفضل لدى صديق الأستاذ أحمد الماقني، الذي طاف به (الفيفث افينوا) و (التايم سكوير) في نيويورك.

بمجرد أن وصلت الفندق ركبت تاكسي إلى شارع تجاري بضواحي روما. لم أجد محلا مفتوحا، سألتهم لماذا؟ أخبروني: "فيرا دي أغوستو" وتظاهرت، أنني فهمت ماذا يقصدون؟ لأعلم فيما بعد أن أغسطس هو شهر الإجازات لغالبية شركات ومتاجر إيطاليا. ولم تصل حقيبتي وطرت إلى الباكستان مثلما غادرت طرابلس، غير أن غبار كراتشي جعل من لون ملابسي رماديا (مسخسخ).

واصلت البحث في تاريخ شهر الباذنجان، الذي ليس في الأشهر شهر مثله، إذ يسمونه شهر الحر والضجر والرطوبة. يقول موضوع عن هذا الشهر إن المرء لا يجد عنوان كتاب يحمل شهر أغسطس يتحدث عن أغان أو طرائف أو شعر بل حروب وكوارث. صنع الله إبراهيم: "نجمة أغسطس "، برباره تاكمان: "مدافع أغسطس“ الروسي ألكسندر سولجنتين: "أغسطس 1914 وأحداث الحرب العالمية الأولى المرعبة. وفي أغسطس دمرت القبائل الجرمانية الشرقية (القوط) روما، ودمرت فيه القنبلة الذرية مدينتي (هيروشيما وناغازاكي) وردم بركان (فيزوف) مدينتي (بومبي وهركولانيوم الإيطاليتين) يوم 24/ 8/ 79م وتجرعت فيه كليوباترا السم. ومن بعد أغسطس مباشرة أبحر كولومبوس نحو العالم الجديد سنة 1492 وفي الشهر نفسه سنة 1519غادر ماجلان اشبيليه في رحلته الشهيرة حول العالم، وفي عام 1498 نحت مايكل انجلو رائعته (المنتحبة).

شهر أغسطس هو برج الأسد؛ برج القوة والنار و "الحمو". ويعتبر شهر الاسترخاء والراحة وهو مناسب جدا لأحلام اليقظة. يسمى في الشام (آب) و (أوت) في تونس والجزائر و(غشت) في المغرب، و(أغشت) في موريتانيا.. أما في شرق ليبيا كان (الشياب) يسمونه (أغصغص)، ولعلهم اشتقوه من كلمة "غصة".

غير أنه واجب علينا أن ننظر إلى المحاولات الجادة، التي ابتدأت في شهر (الباذنجان)، بتفاؤل، مثلما نتفاءل الأن بطبق جيد من "باباغنوج" خصوصا وأن زيت الزيتون بدأ يصل بكميات من مسلاته، ساعدت في انخفاض سعره. وهذا ما أخبرني به صديق من هناك، وتأملوا الخير تجدوه، واعلموا أن الجيدين في ليبيا أكثر بكثير من السيئين.