Atwasat

سورية أخرى في القوقاز!

جمعة بوكليب الخميس 15 أكتوبر 2020, 12:57 صباحا
جمعة بوكليب

لدى انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي، وانفراط حبات عقده، وظهور بلدان جديدة على خريطة العالم، تابعت، وقتذاك، باهتمام أول حرب نشبت في إقليم ناغورني قره باغ. كنت حريصا على مشاهدة التقارير المرئية التي تعرضها نشرات الأخبار في مختلف القنوات التلفزية، وقراءة ما ينشر من تقارير في الصحافة المطبوعة أولا بأول. مبعث اهتمامي أنني لم أكن على دراية، أو علم بما كان مضمورا من مشاكل وخلافات تاريخية في تلك المنطقة من العالم، لأن الإعلام الرسمي السوفياتي كان حريصا على تجاهلها، للتأكيد على انسجام شعوبه وتآخيها تحت الراية الرسمية. ما زالت صور تلك الحرب حية في ذاكرتي، وما زلت أتذكر كيف كان المسلحون الأرمن يقفون أمام عدسات التلفزيون رافعين بنادقهم بيد، وباليد الأخرى الصلبان. كانوا ثملين بنشوة استعادة الهوية المسيحية للإقليم.

في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر الماضي، طفى، بعد مرور أكثر من ربع قرن، اسم ناغورني قره باغ، مرة أخرى، في نشرات الأخبار العالمية، على أثر قيام قوات الحكومة الأذربيجانية بحرب تهدف لاستعادة الإقليم. ما يميز الحرب، هذه المرة، أنها حرب قديمة بأسلحة جديدة. السلاح الجديد تمثل في دخول الطيران الحربي المسير ذاتيا إلى جانب أذربيجان، وبدخوله انقلب مجرى سير المعارك، وأيضا دخول لاعب جديد إلى الساحة ممثلا في تركيا.

التقارير الإعلامية، التي أتيحت لي فرصة الاطلاع عليها، تؤكد أن الاتحاد السوفياتي كان السبب في إشعال فتيل الحرب منذ العام 1923، حين قام الكرملين بإعادة ترسيم الحدود بين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا، واقتطع الإقليم من أرمينيا وضمه إلى أذربيجان رغم علمه أن غالبية سكانه من الأرمن المسيحيين.

التدخل التركي حاليا في الإقليم لصالح أذربيجان، وفي منطقة تعد تاريخيا ضمن مناطق النفوذ الروسي وأمنه الحيوي، يثير القلق، خصوصا أن التوتر بين أنقرة وموسكو الناجم عن تدخل البلدين في الصراع الدموي في سورية يزداد يوما بعد يوم، رغم نجاح البلدين، إلى حد الآن، في تجنب مواجهة عسكرية.

التدخل التركي بالسلاح وبالمرتزقة، إلى جانب الأذر في جنوب القوقاز، لا يختلف عن تدخلها في مجريات حرب طرابلس الأخيرة، كان مؤثرا، وأفلح في قلب الموازين. في طرابلس نجح الأتراك بتدخلهم في كسر الحصار عن المدينة، ثم دحر القوات المهاجمة، وإجبارها على التراجع شرقا حتى مدينة سرت. وحين أراد الأتراك مواصلة الزحف شرقا، كانت روسيا لهم بالمرصاد. في الحرب الماضية في إقليم قره باغ، كانت تركيا على وشك التدخل، لكن روسيا سارعت بتحذيرها من مغبة ذلك، فاضطرت إلى الانصياع.

في حرب طرابلس عملت تركيا على استخدام الطيران المسير ذاتيا. التقارير الإعلامية تؤكد أن طيرانها قام بأكثر من 250 غارة على قوات المشير حفتر، وبذلك مهد الطريق أمام القوات المدافعة عن المدينة للتقدم، واستكمال مهمة إلحاق الهزيمة بقوات المشير المنسحبة. ويبدو أن النجاح العسكري الذي حققوه في طرابلس، دفع القادة العسكريين الأتراك إلى إعادته في الحرب جنوب جبال القوقاز. فمن المعروف عن تلك المنطقة الجبلية وعورة تضاريسها، كما أنها خلال السنوات الماضية، تحولت المنطقة الفاصلة بين القوات المتواجهة إلى خنادق، شبيهة بتلك التي ميزت الحرب الكونية الأولى. طبيعة حرب الخنادق، كما يقول الخبراء العسكريون، تجعل من الصعب على أي من القوتين المتحاربتين التقدم إلا لأمتار قليلة وبخسائر بشرية كبيرة. وللتغلب على المشكلة، لجأ الأتراك إلى إدخال سلاح الطيران المسير ذاتيا، وصار بإمكان الأذر الوصول إلى مواقع الأرمن الحصينة وضربها من الجو.
ما يميز التدخلات العسكرية التركية في شمال سورية، والعراق، وشرق المتوسط، وطرابلس نجاحها المذهل في تحقيق أهدافها. هذا النجاح زاد في ثقة الرئيس التركي إردوغان بنفسه، وارتفعت من خلاله شعبيته في تركيا، في خط سير مخالف لشعبية حزبه، والأزمة الاقتصادية، وما أدت إليه من خسائر في قيمة الليرة التركية.

سرعة المبادرة السياسية، والتحرك العسكري التركيين يبدو كأنهما أصابا الرئيس الروسي بوتين بمفاجأة أربكته. وللعلم، فإن روسيا وأرمينيا وقعتا اتفاقية دفاع مشترك، تلتزم فيه روسيا بالدفاع عن أرمينيا في حالة تعرضها لهجوم. الاتفاقية لا تشمل إقليم ناغورني قره باغ. الرئيس الأرميني طالب أخيرا بسرعة تدخل الدول الكبرى للجم ووقف التدخل التركي، مؤكدا أن عدم تدخلها سيفضي إلى تحول منطقة القوقاز إلى سورية أخرى.

من طبيعة حروب الهوية، كالتي في قره باغ، أنها لا تنتهي بإعلان الانتصار في حرب، بل بالقضاء على التهديد الممثل في وجود الآخر نهائيا. المشكلة أن الآخر يرفض الاختفاء. قد تتمكن أذربيجان، بمساعدة تركية، من استعادة الإقليم إلى سيادتها، وهو أمر محتمل، لكن التوتر، واستمرار التهديد بالحرب، تظل بذوره حية مدفونة تحت التراب المتصارع عليه، تتحين الفرصة للظهور، لأن الهوية، كما يقول الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو، هي العظم الأصلب الذي تتكسر عليه أسنان العقل.