Atwasat

خواطر محض ذاتية (2 - 2)

أحمد الفيتوري الأربعاء 14 أكتوبر 2020, 09:51 مساء
أحمد الفيتوري

• تنمية "من مكة إلى هنا"
لقد بدا لي من خلال متابعتي المحدودة ومطالعتي غير المختصة؛ أن أول عمليات الاستبعاد في الأدبيات السياسية قد طالت مصطلح التنمية، فقد أمسى مصطلحا في القواميس والموسوعات الاقتصادية الأكاديمية، وغرب مع ما غرب من مصطلحات تنموية أخرى مثل التشريك والتكامل. وبدا وكأن الديمقراطية والتدفق الحر والسوق تعنى مما تعنى أنها النقيض الحقيقي للتنمية الوئيدة.

لعل أول استنتاج يظهر أن الدافع والمعيق للتنمية العامل الخارجي؛ الآخر سبيل المقارنة الذي هو الحافز والمعوق في نفس اللحظة. وهذا حقيقي إذا ما كان مفهومنا ثنائيا يتمظهر في عزل العامل عن موضوعه؛ بأن ندرج الذات في مواجهة الآخر، هكذا دون اعتبار للمعطيات الموضوعية التي تبين أن نظرية الاستبعاد معطى داخلي أيضا كما أمها عملية الاستعمار؛ فما الذي يعنيه هذا الانبثاق القروسطى للاثنيات، حروب الهوية الدينية والقومية، النزعات الأصولية الدولية، وهذه الخلائط التي تخلط التحليل العقلي لمجرى الأمور بالغرائزية، التي تحدو بنا إلى أن نحسب السخط تفسيرا. ألا يعنى أن الكلب يفتش عن عظمته في أرجاء الأرض، وهو يفعل ذلك بإحساس بالمكان، بشعور بالزمن وبعين الشك إزاء الكائنات.

ما هو القديم وما هو الجديد في هذا المكان، حيث مضغت التيارات فجوات الزمن؟ بحسب رأى الكاتب الجنوب أفريقي بريتن بريتنباخ، وبأن الاستمرار في التحرك وإحداث ضوضاء يبقي الآن، أكثر من السابق، بما أننا حشرنا في مضايق وشعاب القلق، شرطا مسبقا للبقاء.
لقد أكلت التنمية نفسها كما أكلت القطة أولادها، فالمستهلك لم يعد عالمثالثي بعد أن استنفدت موارده؛ والتنمية تعنى الاستغلال الحسن للموارد، من أجل تطوير هذه الموارد وإعادة توظيفها: لهذا حاول مسعود بطل رواية الصادق النيهوم "من مكة إلى هنا" توظيف موارده من اصطياد وبيع السلاحف المرابطة – التي وقف في مواجهة غضب الناس والرب لتحريم اصطيادها - وبعد أن وُجِه من فقي الجامع في سوسة وزوجته، وظهور شبح الصبي الذي كان يساعده وغرق، ضاع وضيع موارده في السكر، ففشل في الحصول على موتور لقاربه الذي ضيع مجدافيه – أيضا – وهو يطارد سلاحفه.عاد لبنغازي ليبيع الملح؛ عاد عبد الملح ولكن الملح ذاب، ولم يعد له سوق، بعد أن جُلب ملح الإنجليز المعلب في علبة علامتها التجارية خميسة.

هكذا رصد لنا الصادق النيهوم فشل محاولة بطله في روايته "من مكة إلى هنا"(*). إن النيهوم لا يبحث في المشروع التنموي لأنه يكتب رواية وليس بحثا علميا محكما ومدققا، وإن ما أفعله هو ما فعله النيهوم من قبل؛ أرصد إحساسي وهواجسي، وأفكر بصوت مسموع لظاهرة موت التنمية في المجتمعات النامية، وهذه الحيرة في تسميتها بعد أن لم تعد لا نامية ولا عالم ثالثية، فهل لم نعد نحن نحن؟ . يبدو ذلك على الأقل عند من أسمانا نامين، ومن كنا له مستعمرين فغدونا مستبعدين.

هكذا يتضح أنه من الضروري - ليس من واقع الاستبعاد هذا، ولا من واقع موت التنمية فحسب بل ومن واقع حال العالم جمعا المتطور وغير المتطور - أن نعيد مراجعة بدهياتنا ومسلماتنا، وأن ننظر للمستقبل بعينه لا بعين الماضي، فالمستقبل ليس حاضر الماضي، ولكن الحاضر الذي نحيا نقيض ماضينا، ففي العالم عولمة ما ومصطلح جديد وواقع أجده غير ما توقعنا أو حلمنا به ولم نعمل من أجله. فالتنمية أو ما رغب آل الجنوب ليس هو حاصل جمع إرادة الدول النامية الغائبة، وإرادة الدول المتطورة التي على الأقل لم تعد تنظر إلينا أو تُسمينا دولا نامية.

وكذلك لم تعد الصين أيضا من الدول النامية؛ فغير أنها دخلت مجلس الأمناء على العالم، هي دولة لها في سوق الدول المتطورة مكانة وإن لم تسم من دول المتطورين بعد، وفي الصين هذه لم نسمع باصطلاح التنمية هذا، فما هو المصطلح السري أو الاسم الجديد للصين هذه؟.

السؤال إذاً: ما السبيل للتنمية بعد موتها؟ أم أن البحث بحاجة إلى مدخل آخر هو غير المنهج البنيوي الذي يقول بموت المؤلف؟ فلنقلب الصفحة إذا..

• وقد راجعت الكتب التالية:
(*)من مكة إلى هنا - رواية - الصادق النيهوم - دار الحقيقة - الطبعة الأولى 1971م.
مراجع بالخصوص :
1 - نعوم تشومسكي- سنة 501 الغزو مستمر - - ترجمة مي النبهان - دار المدى - دمشق - الطبعة الثانية 1999م
2 - مجلة: أبواب الفصلية الصادرة عن دار الساقي - بيروت - العدد الثاني؛ خريف 1994م – (انظر: مقالة كتاب دوبريه وزيغلر السجالي لجورج طرابيشي ص 120، ومقالة: جنوب أفريقيا عظمة الكلب للكاتب الجنوب أفريقي بريتن بريتنباخ، ص54 ).
3 - مجلة: كتب/ وجهات نظر - الصادرة عن الشركة المصرية للنشر العربي والدولي - القاهرة - العدد السادس عشر إبريل 2000م