Atwasat

الحريق الليبي حطب اقتصادي ونفخ سياسي

صالح السنوسي الأربعاء 14 أكتوبر 2020, 06:51 مساء
صالح السنوسي

عندما يشب حريق في بيتك فإن أول ما تفكر فيه وأول تصرف تلقائي يصدر عنك هو محاولة إطفاء الحريق قبل التفكير أو البحث عمن كان وراء هذا الحريق، ولا شك أن الوضع الذي نحن فيه الآن هو شبيه ببداية حريق، وعلينا أن نسارع -وما زلنا نستطيع- إلى إخماد ما ظهر منه، قبل أن يخرج عن سيطرتنا فيحترق الوطن بكامله، وعندها لن يفيدنا معرفة من كان الجاني بل في الحقيقة لن يتبقى الجاني ولا من يعاقبه.

سيكون ما أقوله وأقترحه مجرد لغو ما لم يظهر من بين صفوف الأطراف المتصارعة قوى تفكر بشكل عقلاني بعيدا عن قناعاتها المطلقة، والتي قد لا تكون صحيحة تحت كل الظروف، وأن تعترف بأن هناك أخطاء كبيرة وقعت من كل جانب، بصرف النظر عن أسبقية وقوع بعضها على وقوع البعض الآخر، وأن المستقبل هو الممكن المتاح أمامهم وأن الماضي خرج من أيديهم ومن العبث أن يبقوا سجناء له، وأن الاستمرار في الصراع والتمترس خلف دعاوى أيديولوجية يقينية أو جهوية عصبوية لا يعني إلا عدم أهمية استمرار الكيان الجغرافي والسياسي الليبي بالنسبة لمن يتمسك بتلك الدعاوى.

بسبب صراع وأخطاء القوى الليبية في الداخل وتدخل القوى الأجنبية وصلت ليبيا إلى وضع لا يمكن الخروج منه واستعادتها ككيان سياسي وجغرافي عن طريق التفكير في ما كان يجب أن يكون، بل في التفكير والعمل في وعلى ما هو كائن.

من الملاحظ أن كل الاتفاقات والمبادرات التي جرت للبحث عن حلول للمشكل الليبي لم ينتج عنها سوى تفاقم الأوضاع وزيادة التمزق والتشظي وظهور خطابات جهوية ومناطقية تحث على الفتنة والكراهية، تتبناها النخب قبل العامة، ولا يستطيع أي طرف الادعاء بأنه أقل استخداما لهذه الخطابات من خصمه، فقد تبنته قوى في الشرق الليبي بمناسبة الحديث عن الفيدرالية والتهميش، وتبنته قوى في الغرب الليبي من أجل التعبئة والتحشيد لقتال من تعتبرهم غزاة قادمين من الشرق البعيد، كما تأقلم العقل الليبي مع مصطلحات تم استخراجها من قاموس الصراع بين الأمم, مثل التحرير، العدو، الغزو، العودة إلى من حيث أتوا، الهدنة، مناطق منزوعة السلاح، وهي مصطلحات جديرة بوصف حرب بين أمم كل منها ينتمي إلى حضارة وثقافة مختلفة وبينها ثارات تاريخية ومصالح وصراع إستراتيجي عريق عراقة الزمن، وليس مجرد نزاع بين قوى ليبية مسلحة حول السلطة وطريقة الحكم داخل إقليم واحد، ويمكن أن يتوقف القتال بينها لأى سبب في أي قرية أو مدينة لتبدأ محاولات التفكير في استعادة الوطن دون التخندق والاحتفاظ بهذه القرية أو المدينة، ودون الإصرار على استعادتها من يد العدو كأنها الجولان أو كشمير.

صحيح أن هناك مطالب ترفعها مدن ومناطق ليبية وأن هناك تيارا فيدراليا جعله ضعفه متطرفا ولكنه أخذ يتغذى على الأخطاء والتصلب المركزي والحروب والخطابات الجهوية والعنصرية المتبادلة، ولكن هذه المطالب لا تكون سببا في صراع مسلح، لأنه ليس فيها مناداة بإنهاء الكيان الليبي أو الخروج عن الدولة أو رفض لمبدأ العيش معا، فحقيقة الصراع الذي نشب كان سياسيا في حدود السلطة وكيفية الحكم في ذات الإقليم، جرت دحرجته على صعيد التوصيف فقط على أنه حرب بين أقاليم، كأنها نشبت بسبب المطالبة بالنظام الفيدرالي أو التهميش أو عدم المساواة في الوظائف السيادية.

لا شك أن فشل القيادات الليبية التي تصدرت المشهد السياسي منذ العام 2011 في التعامل بعقلانية وبحرص على مصلحة الوطن مع هذه المطالب الإدارية والاقتصادية في شرق ليبيا وجنوبها، هو الذي أدى إلى إلباس هذه المطالب عباءة سياسية فأصبحت جاهزة لتوظيفها كموضوع أخذ ورد في أي صراع لا علاقة له بها، وليس أدل على هذا الفشل من انقسام الهيئة التأسيسية، التي كان ينتظر منها وضع دستور لدولة مدنية، فانقسمت إلى فريقين يتصارعان حول أخذ ورد هذه المطالب، فأتاح الفرصة لزملائهم في الهيئة من تيار الإسلام السياسي القليل العدد أن يقايضوا اصطفافهم إلى أحد الفريقين في مقابل فرض المادة السادسة، التي جعلت أي مادة في الدستور تحت رحمة هذه المادة السرمدية، التي تعطي الحق للفقهاء والمفتين والمحتسبين بإباحة أو تحريم أي تصرف تأتي به السلطة في دولة لاهوتية بقشور مدنية.

-  اقرأ أيضا: مزيد من مقالات الكاتب

لعل البحث عن حلول ذات صبغة اقتصادية هي التي تستجيب للمطالب المختلف حولها، مثل توزيع الثروة، العاصمة الاقتصادية، الفرص المتساوية في التوظيف، توزيع المؤسسات السيادية، النظام الفيدرالي.. فالملاحظ أن هذه المطالب رغم الظاهر السياسي لبعضها إلا أنها في الواقع هي الوجه الحقيقي للحياة الاقتصادية، لأن الاقتصاد هو البنية التحتية التي تفرز كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية وكل المشاكل والحلول، ومن هنا فربما محاولة البحث عن حلول لها من مقترب اقتصادي إداري، قد يسهم في حل هذه القضايا المزمنة حتى لا تبقى كألغام سياسية يجري استغلالها داخليا وخارجيا لتفجير الكيان الليبي.

بالطبع لا يمكن تطبيق هذه الرؤية قبل إنهاء الصراع العسكري الذي تشرف عليه وتغذيه القوى الدولية، ولكن بعد الوصول إلى تلك المرحلة فإن تبني وتطبيق مثل هذه الرؤية سيكون من مسؤولية الليبيين وبيدهم وحدهم، إذا أرادوا القضاء على الأسباب التي قد تتخذ كحجج لتبرير أي صراع سياسي وأيديولوجي في المستقبل.

لعل تطبيق اللامركزية الإدارية واللامركزية المؤسساتية -وهي قرار يمتلكه الليبيون وحدهم- يقدم حلولا يقبلها الغالبية الساحقة من الليبيين وتتمثل في:
1- اللامركزية الإدارية، التي تعني تطبيق نظام الإدارة المحلية الموسعة، والتي في حالة تطبيقها بشكل صارم تنهي التهميش الإداري والمالي، الذي يشكو منه بعض الليبيين شريطة أن تجري دسترة الوحدات الإدارية «المحافظات» بالاسم ولا يجوز تغييرها إلا باستفتاء سكان المحافظة أو تغيير الدستور، ولكن نجاح هذا النظام يلزمه توافر قاعدتين، أولاهما هي توزيع عادل لمشاريع التنمية الوطنية حسب نسبة الكتل السكانية، والقاعدة الثانية تتعلق بالتوظيف في المؤسسات العامة، حيث ينبغي أن تخضع الوظائف في هذه المؤسسات لمعيار وحيد هو الكفاءة، وهذا لا يتحقق إلا بإتاحة الفرصة لجميع المواطنين على امتداد الجغرافيا الليبية وذلك بآلية امتحان شفاف معلن تكون نتائجه متاحة لكل من يريد الاطلاع عليها بفضل التكنولوجيا التي لم تعد تترك عذرا لأحد.

2- اللامركزية المؤسساتية: وهي تقوم على ركيزتين هما عاصمة البلاد والمؤسسات غير السياسية، فالعاصمة مقولة سياسية وليست بالضرورة اقتصادية، أي إنها هي التي تحتضن المؤسسات السيادية السياسية وهي مقر اتخاذ القرارات السيادية ولا تزاحمها أية مدينة في هذه الوظيفة.

وفي الحالة الليبية فإن العاصمة يقطنها أكثر من ربع سكان الدولة وهو وضع -في حدود علمي- لا تتشابه فيه معها أية عاصمة في العالم بالنظر إلى نسبة السكان، وهذا بسبب أنها أصبحت القبلة الوحيدة للباحثين عن فرص العمل والحالمين بتحسين شروط حياتهم من النخب ومن العامة من جميع المدن الليبية الأخرى، التي أصبحت اقتصاديا أقرب إلى زوائد دودية في جسم الوطن منها إلى مراكز عمرانية، وذلك بسبب تكدس كل المؤسسات الاقتصادية والمالية والإدارات الرئيسية لشركات البترول في عاصمة البلاد، ولهذا فمن الأفضل إعادة توطين هذه المؤسسات والإدارات في عدد من المدن الليبية، شريطة أن يكون العمل فيها على المستوى الوطني وليس حكرا على سكان هذه المدن، بالتالي فإن أي مدينة من هذه المدن ستصبح:
أولا- مركزا عمرانيا لنشاط اقتصادي وتجاري وحراك اجتماعي.
ثانيا- تتوافر في هذه المدن فرص عمل وهذا من أهم آليات إعادة توزيع الديمغرافيا الليبية وظهور أجيال ونسيج اجتماعي جديد يربط أطراف الوطن بسبب جاذبية هذه المراكز للكتل السكانية التي حولها، وانتقال أعداد من العاملين في هذه المؤسسات من العاصمة إلى تلك المدن.

ثالثا- تخفيف أعباء على العاصمة لا يمكن احتمالها بسبب البنية التحتية والتكدس السكاني وصعوبة الحركة في الحياة اليومية، إلى جانب وضع حد لشكوى عدد غير يسير من الليبيين بأن العاصمة سلبت منهم كل شيء.
رابعا- لا شك أن وجود مثل هذه المؤسسات في هذه المدينة أو تلك، له مردود نفسي وإحساس أهلها بأن مدينتهم تحتضن مؤسسات اقتصادية وطنية يعتمد عليها الوطن، وبالتالي فإن مدينتهم ومنطقتهم تعتبر جزءا فاعلا في بلادهم مما يعمق إحساسهم بالانتماء وحرصهم على هذا الوطن.

أما كيفية اختيار هذه المدن فربما من الأفضل تحديد المراكز المناطقية فتكون على سبيل المثال في غرب ليبيا كل من مصراتة وغريان، وفي الشرق الليبي كل من بنغازي والبيضاء، وفي الوسط والجنوب كل من سرت وسبها، وربما يتم توطين المؤسسات في هذه المدن بنسبة الكتلة السكانية في كل مدينة.

لا شك أن هناك انتقادات وتساؤلات ستطرح حول هذه الفكرة وهذا قد يثريها، ولكن في كل الأحوال فإن مشكلة تكدس كل هذه المؤسسات والإدارات في العاصمة إن لم تجد حلا، فإنها ستظل المحرك الأساسي لجميع الإشكاليات التي ترتدي عباءة سياسية مثل الفيدرالية وتوزيع المناصب السيادية والعاصمة الاقتصادية. فكلها -في تصوري- ستفقد أهميتها في نظر من يتحدثون عنها في ظل اللامركزية الإدارية، وتساوي فرص التوظيف أمام الكفاءات، وعدالة توزيع مشاريع التنمية، وإعادة توطين المؤسسات غير السياسية.