Atwasat

سقطت الحكومة.. وبقيت الطريق

سالم الكبتي الأربعاء 14 أكتوبر 2020, 06:47 مساء
سالم الكبتي

 

ظلت فزان بعيدة عن الساحل الليبي وتكاد تكون معزولة بالمرة، لم تتصل بطريق معبدة وسهلة وواضحة بكل مناطقها مع ذلك الساحل، لم يهتم الترك ثم الطليان والفرنسيون بالأمر، تركوا فزان بعيدة ومعزولة. كانت القوافل تعبر الدروب وسط الصحراء، ثم السيارات الكبيرة الناقلة للبضائع والبشر، وكانت الرحلة من الجنوب إلى الشمال تستغرق أياما وليالي في ظروف الشتاء والصيف، رحلات غير عادية خلال المدقات والوهاد والتلال.

بعد الاستقلال فكرت الدولة أثناء تنفيذ مشروعاتها ربط فزان بطريق تمتد من بوقرين إلى الجنوب، في مسافة طولها نحو ستمائة وخمسين كيلومترا. تعاقدت في أواخر 1958 مع شركة ساسكو التي يملكها عبدالله عابد السنوسي، لإقامة المشروع الحيوي الذي انتظره أهالي الجنوب بصبر وشوق كبيرين، أضحى حلمهم يقترب من التحقيق على الأرض. شرعت الشركة في التنفيذ، وكان من المقرر في العقد أن ينتهي اكتمال المشروع بعد ثلاث سنوات. تسلمت الشركة المذكورة بعد أن رسا العقد عليها مبلغ مليون وتسعمئة جنيه ليبي تقريبا، وبعد فترة وجيزة طالبت الشركة من خلال رئيسها الحكومة بمبلغ إضافي قدره أربعة ملايين جنيه لاستكمال تنفيذ الطريق المذكورة.

وهنا حامت الشبهات والشكوك والظنون مرة واحدة تجاه ما يجري سرا بين الحكومة والشركة. تسرب ذلك الذي يجري إلى جريدة المساء، التي يصدرها سليمان دهان في طرابلس. كشف عن المستور في العدد الصادر بتاريخ العشرين من أغسطس 1960، وتناولته جرائد أخرى بالقدر نفسه وهما الليبي والزمان. كان رئيس الحكومة هو السيد عبدالمجيد كعبار، كانت حكومته هي الرابعة في عهد الاستقلال، تولاها في مايو 1957، وكان قبلها أول رئيس لمجلس النواب عقب الاستقلال ثم صار وزيرا للخارجية ونائبا لرئيس الوزراء مصطفى بن حليم، حتى تكليفه برئاسة الحكومة.

دامت فترة حكومة كعبار نحو ثلاثة أعوام وعدة أشهر. وشهدت العديد من الظروف والأحداث داخل البلاد وخارجها، وحاولت معالجة الشؤون بالقدر الذي تيسر لها في تلك الأعوام. كانت رائحة النفط تقترب من الأنوف، والشركات الأجنبية وصلت إلى البلاد للتنقيب عن السائل الأسود، وأقبلت معها ثقافة جديدة من العلاقات والمصالح مع الكثير من المسؤولين والأفراد. طغت تلك المصالح على مصالح الوطن عبر انتشار الرائحة وتداعياتها من الفساد.
والواقع أن الملك نفسه سبق الكثير في التنبيه ولفت الأنظار إلى ما يحدث، فأصدر في الثالث عشر من يوليو 1960 منشوره الشهير «لقد بلغ السيل الزبى». وتردد تلك الأيام أن الملك في هذا المنشور الحاد والصريح ربما كان يقصد رؤوسا كبيرة في الحكومة والخاصة الملكية وبعض أصحاب الشركات المتنفذة.

وجه الملك كلامه إلى رئيس الحكومة والوزراء والوكلاء وإلى الولاة في طرابلس وبرقة وفزان والنظار والمتصرفين وكل المسؤولين، فقد طرق أسماعه وفقا للمنشور: «ما يصم الأذان من سوء سيرة المسؤولين في الدولة من أخذ الرشوة سرا وعلانية والمحسوبية القاضيتين على كيان الدولة وحسن سمعتها في الداخل والخارج مع تبذير أموالها سرا وعلانية..». هذا المنشور.. هذا النداء لعله شجع أصحاب الرأي والمهتمين بالشأن الوطني على التجاوب معه والتشديد على مظاهر الفساد المالي وانتشاره في البلاد، والدعوة مع ما صرح به الملك إلى التصدي لذلك الفساد والقضاء عليه بكل صوره وأشكاله.

التقط البرلمان الذي كان في عطلة ما يتردد في الصحف والشارع حول طريق فزان. نهض مجموعة من نوابه بالمسؤولية تصحيحا للأخطاء والسلبيات. كان في مقدمة هؤلاء النواب: عبدالمولى لنقي وبشير المغيربي وعلي مصطفى المصراتي ومحمود صبحي ومفتاح شريعة ويونس بالخير وعبدالسلام التهامي.. وغيرهم ممن يمثلون داخل البرلمان صوتا وطنيا للمعارضة تحت القبة، وتداولوا الأمور في عدة جلسات مشهورة وشعرت فيها الحكومة بالحرج والضيق.

الخطوة الأولى بدأت برفع مذكرة من النواب إلى الملك لدعوة البرلمان بمجلسيه الشيوخ والنواب للانعقاد في «جلسة استثنائية» للنظر في تجاوزات الحكومة مع الشركة. كان الدستور في مادته «169» قد نص على أنه: «لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة في سنة أو سنوات مقبلة إلا بموافقة مجلس الأمة»، وذلك لم يتم في الأساس. والواقع أن الملك استجاب ووافق على ما ورد في مذكرة النواب وأصدر مرسوما في منتصف سبتمبر بدعوة المجلس للانعقاد استثنائيا وحدد له اليوم الثالث من أكتوبر 1960.

والذي حدث بعد صدور المرسوم أن رئيس الحكومة لم يحضر جلسات البرلمان، واعتبر مناقشات النواب حول طريق فزان تعريضا شخصيا ضده، وحاول استصدار مرسوم بحل البرلمان، ولم ينجح في ذلك على الإطلاق.
أيام عديدة وجلسات في البرلمان ونقاشات وجدل حول موضوع الطريق الذي استمر، لأن آراء النواب لم تكن ضد إيقاف تنفيذه، ولكن كانت تتجه نحو علاج نواحي القصور والفساد التي أحاطت بالمشروع وجعلت منه أزمة، عرفت تلك الأعوام بأزمة طريق فزان عند المؤرخين والمهتمين بالموضوع الليبي.

ظل النواب الذين شكلوا المعارضة في وجه الحكومة يلحون في مناقشة الموضوع الذي تطور ولم يعد مجرد مسألة طريق تتجه من الشمال إلى صوب الصحراء البعيدة، بل اتجهت إلى المواجهة الحاسمة مع الحكومة برمتها والمطالبة بسحب الثقة عنها تماما، فاستقالت من مهامها بعد أن أدركت أن الملك نفسه لا يريد منها الاستمرار بناء على ما حدث. صدر تكليف آخر منه إلى أحد وزرائها وهو السيد محمد عثمان الصيد بتولي الحكومة الخامسة في السادس عشر من أكتوبر.

وللطريق حكاياتها وأسمارها. أعرف سيدة من سبها توفي زوجها تلك الأعوام، ترك لها أسرة مكونة من بنات صغار، لم يكن لديها مصدر قوت أو رزق يسد رمق الأسرة. ضاقت بها السبل، ارتدت ملابس الرجال، واتجهت صوب معسكرات العمال المنتشرة على امتداد الطريق الجارية والتحقت بالعمل في طريق فزان على أساس أنها رجل. العمال والمسؤولون لم يدركوا الحقيقة. تسمت باسم رجلها المتوفى، عاشت مع العمال وسط بناء الطريق رجلا، عاملوها كزميل لهم، عرفوا ذلك لاحقا. التقيتها في سبها بعد أعوام عديدة، روت لي الكثير، التقطت لها صورا بلباس الشغل الرجالي ومعها بناتها اللواتي كبرن وصرن ذوات أسر أيضا.
وللطرق في ليبيا العديد من الصور واللوحات، بعضها كان ملهما للشعراء والسياسيين. ثمة موضوع يتصل بإحدى تلك الطرق غربي طبرق، أيامها أيضا، تداعى عنها سجال بين الشاعرين الكبيرين جعفر الحبوني وموسى الراوي، بدأت بالمطلع التالي:

«الو بريزة عيت..... حدفها سيل ..... مشت في المالح مية ميل»

منذ يوليو وحتى أكتوبر 1960، قبل ستين عاما، حدث ما حدث، ونشأ عنه ما نشأ، الصحافة المستقلة، حرية الكلمة، البرلمان، الصوت الوطني، الدور الواضح في محاربة الفساد والرشاوى التي تنخر عظام الوطن وتقتله، الوعي بالمسؤولية تجاه الوطن والناس. هل تعطي الأمثلة والدروس.. لأحد؟!

سقطت الحكومة.. لكن لم تسقط كلمات الحق.. والطريق الطويلة!!