Atwasat

فتى باب البحر العجيب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 أكتوبر 2020, 03:30 صباحا
محمد عقيلة العمامي

نحن الليبيين نخجل في التعبير عن حبنا لمن نحب! أنا أقصد تلك العاطفة الإنسانية العظيمة التي تتخلق ما بين ذكر وأنثى، بل ونصف مشاعرنا بمفردات وتشبيهات بعيدة عن رقتها، بدءا من حكاية الكبد والسبع أمواس، إلى حارق «كنيني».

نتردد، ونتلعثم، وأحيانا لا نُعلنها لمن نحب كأنه عار أو خطيئة. ويخجل المحبان الليبيان حتى بعد الزواج وإنجاب الأطفال عن التعبير صراحة عما يعتمل في صدريهما من حب، الزوج الليبي لا يجاهر بمشاعره لزوجته أمام أطفاله، ناهيك بعائلته أو أصدقائه، من هو الذي يجاهر بكلمة «أحبك» مثلما تفعل الأمم الأخرى؟

قرأت قولا لقديس اسمه «ستيفن وايز» وتأملته كثيرا، وتذكرت حكاية سبق أن وظفت بعض أحداثها، ورأيت أن أحكيها لكم مثلما حدثت. أما القول أو النصيحة فتقول: «ليس المهم أن يختار المرء شريكا صالحا فحسب، وإنما أن تكون أنت أيضا شريكا صالحا».
أما الحكاية فبدايتها كانت في مناسبة سياحية اسمها «الدافني»، وهو عيد في الثقافة اليونانية للنبيذ، جعلوا منه، في أثينا، مناسبة سياحية، انتقوا له حديقة شاسعة فوق ربوة وجعلوا للمشاركة فيه رسم دخول موحدا، فأصبح مزارا للفتيات الشقراوات الرقيقات القادمات من ضباب وصقيع قبعة العالم الشمالية، إلى بلاد الشمس، التي أجاب أحد أصدقائي سمر البشرة -تعود أصوله إلى عنترة بن شداد شخصيا- فتاة دنماركية كانت أسفل شمسيتها الملونة، المجاورة لشمسيتنا الملونة أيضا، وهو مستلقٍ على رمال «قليفادا» تحت شمس ظهيرة يوليو، عندما سألته عن سبب انتقائه اليونان لقضاء إجازته، أجابها من بعد أن انقلب يحك بطنه: «أنا هنا من أجل الشمس والرمال والبحر! Sun، Sand، Sea»، وخلق جناس حرف «S» للجملة نغمة موسيقية، فما كان من صديقنا الثالث إلا أن وقف مُحاكيا عازف كمان قائلا: «يا كذاااااب! بنغازي واليونان على خط طول واحد وعندنا الثلاثة ومعهن (لاقبي) يا (شنفقه)».

صديقي هذا من طرابلس وكان يعمل في أحد حقول النفط، ويقضي إجازته في بنغازي، إلى أن عرف الطريق إلى أثينا، التي أصبحت في ستينات القرن الماضي مزارا لشباب بنغازي لقضاء إجازتهم وكذلك حاجات أخرى، فالسفر إليها لا يحتاج إلا لقدر يسير من المال ورحلة جوية تستغرق نصف ساعة، وكان الشباب الذين التحقوا مبكرا بمعسكرات التنقيب عن النفط هم أكثر المسافرين إليها بسبب ارتفاع مرتباتهم، ناهيك بأن الفنيين الأميركيين يقضون إجازاتهم هناك أيضا، شجعوهم على ذلك.

أعرف أصدقاء لم يروا غيرها من المدن اليونانية، وأعرف غيرهم زار عددا كبيرا من مدنها وجزرها الكبيرة التي تزيد على 500 مدينة وجزيرة، وكنت أعرف أن أحدهم لا علاقة له بشهر رمضان، وأسماء الشهور العربية عنده: رجب، شعبان، اليونان! والكثيرون، وأنا منهم تعلموا سريعا قدرا يسيرا من كلمات الأغاني اليونانية، وكانت كافية ليتعاملوا كيف يُلحقوا بها كلمات من المعاملة اليونانية اليومية، وابتدعوا بسهولة جملا أوصلتها سهرات موسيقى «البازويكي» حد المصاهرة!

كنت وما زلت مأخوذا باليونان! أستغرق في تاريخهم، وأعشق موسيقاهم ويأخذني شجن ألحانهم، وأستمتع بليالي أثينا، وأماسي صيف مطاعم «بيريوس» وروائح شواء الأخطبوط وصغار أسماك «التريليا» التي تسمى «الكاتشامورا» مقلية في زيت الزيتون، وروائح شواء الخرفان الرضيعة في «باري»، ونبيذهم المحلي.

هكذا كنت أنا، إن أحببت مكانا يُصبح قطعة من وجداني، وإن استغرقني الحديث عنه يضيع مني رأس موضوعي، و«الدافني» بفتياته يتمازحن ويضحكن ويتحركن كذوائب الشموع، ممسكات بإبريق نبيذهن، قد يضيّع رأسك ولكنك تتذكر كل شيء وتعود إليه مرات ومرات في الرحلة الواحدة. ويندر أن يغادر أحد الشباب هذا «الدافني» ليس مبتهجا، ومجبور الخاطر!

صديقي هذا الذي يبحث عن الشمس والرمال والبحر، أخذ تلك الفتاة الدنماركية إلى «الدافني» ولم تمض أشهر حتى أخذته تلك الفتاة إلى الدنمارك، وانقطعت أخباره.

بعد نحو عشرين عاما، كنت في الدنمارك، واقترح صديقي المقيم هناك أن نقضي نهاية الأسبوع في قرية اسمها «فيبرغ» تقع عند قبعة العالم الشمالية! فذهبنا إليها. وفي الليل ارتدنا ملهى شبابيا معروفا، وهناك ومن بعيد انتبهت إلى البهجة والفرحة التي يضفيها شاب أسمر يعزف على مجموعة طبول الإيقاع، مساهما بشعره المجعد الطويل المجدول الذي يسفيه يمينا ويسارا وإلى الأمام والخلف، وابتسامته المشرقة الواسعة، التي خصني ببعض منها، فحييته. أثناء استراحته جاءني متبسما تحدثنا باللغة الإنجليزية وطلبت له مشروبا، ولم تفارقه ابتسامته أبدا.

وسألته، من أي بلد جاء إلى هذا المكان المغمور بالجليد تقريبا طوال العام؟ انفجر ضاحكا، وقال باللغة العربية: «من (باب أبّحر) يا قرد! خيرك انسيتني؟ أنا (فلان)!»، وتذكرته على الفور وتعانقنا. أصر على أن يأخذنا إلى بيته في اليوم التالي. كان قد تزوج من تلك الفتاة التي التقاها في أثينا.

في بيته رأيت طفليه وزوجته الرائعة وقضينا يوما ممتعا، فهالة الحب الذي يغمرهما كانت مشعة حد البهجة. كان لزوجته فلسفة حب عميقة، ناجحة وعملية. ظللت مبهورا برؤيتها التي أسستها على أن عهود الزواج، التي تقال أثناء الخطوبة أو قداس الزواج ينبغي أن تظل نبراسا للزوجين.

قالت الكثير، وما لفت انتباهي تفسيرها عندما تسألك زوجتك إن كنت ما زلت تحبها. قالت: «عليك أن تجيبها بأي صيغة كانت ما عدا أن تقول: (طبعا أحبك)، بل قل لها إنك تحبها بأي وصف أو كلمات إلا هذه الصيغة! لأنها تنبئ عن أنك لم تعد عاشقا وإنما مجرد زوج! إنها تريد أن تشعر أن عاطفة الحب ما زالت ملتهبة، فالمرأة تعيش وتبدع وتزهر طالما هناك ما يغذي عاطفتها، إخلاصك والاهتمام والعناية بها لا يغذيان عاطفتها، وإنما يغذيان إحساسك بواجباتك الأسرية! إنها تريد ما سمعته قبل الزواج لأنه يظل ملتهبا حيا». هكذا وضحت سر سعادتها، وراحته هو أيضا.

المرأة، تتنفس بالحب والحنان والعاطفة بجانب الأمان طول حياتها، أما الباقي فهو مكمل لذلك. وأعتقد أن 99% من الأزواج يجيبون زوجاتهم عن سؤالهن الأبدي: «طبعا أحبك». ويبدو أن فتى باب بحر له إجابات أخرى، وذاك هو سر نجاحهما على الرغم من الاختلاف الكامل بين بيئتيهما وأيضا سُلالتيهما. فلا تجيبوا: «طبعا أحبك» هذا إن كنتم ما زلتم تُسألون؟!