Atwasat

البشير الهوني.. تنوير مبكر

سالم الكبتي الأربعاء 07 أكتوبر 2020, 02:41 صباحا
سالم الكبتي

خطان متساوقان لم يفترقا. لازماه باستمرار. المعرفة والترحال كانا همه معا. وحين ولد أواخر القرن التاسع عشر في المرج لم يكن ليدور في تفكير أسرته الصغيرة القادمة من هون: الصحراء والتلال والنخيل إلى الجبل والبطوم أنه سيتجه مبكرا إلى مخاطبة (العقل الأوروبي) وتفكيك آراء (المستشرقين) بوعي وعقلنة كبيرين، مع نشر العديد من المؤلفات في هذا السياق.

ليبي أسمه (البشير السنوسي الهوني) يقوم بهذا الجهد العلمي في مرحلة مبكرة.. في ظروف صعبة.. في بدايات القرن العشرين: كتابة وطباعة ونقاشا وحوارا مستمرا عبر الصحف وبقليل ماله.. لكن بمزيد من الحبر والعرق المصحوبين بحماس منقطع النظير.

تعلم (محمد البشير) وهو اسمه المركب حيث درج بعض الليبين تلك الأيام على هذه العادة في إطلاق الأسماء تقليدا للأتراك الموجودين لإدارة الأمور في طرابلس ومرزق وبنغازي.. وكل المناطق. وسيفعل الشئ نفسه عندما يسمى ابنه رشادا الصحفي والكاتب المعروف لاحقا ب محمد رشاد. تعلم في المدارس المتاحة ذلك الوقت وحفظ القران الكريم والكثير من الشعر وأجاد دروس اللغة العربية والتركية. عام 1912 في مطلع شبابه سيبعث لمواصلة الدراسة في الأستانه مع نفر آخر من أبناء جيله من مختلف مدن ليبيا.

الدراسة في تركيا ستشمل دروسا نظرية ومواد تتصل ببعض الحرف مثل النجارة والبناء إضافة الى الدروس العسكرية. بعض هؤلاء الشباب الدارسين على ضفاف البسفور، ومنهم الهوني، لم يتمكن من العودة إلى ليبيا نتيجة توغل الاحتلال الإيطالي فاشتغلوا في مكتب كمال أتاتورك موظفين متخصصين، وعندما تغيرت الأمور هناك عام 1927 وألغى الذئب الأغبر الخلافة وأعلن الجمهورية رجع البعض منهم وتفرق آخرون فيما استقر الهوني في مصر مهاجرا.. في طنطا مجاورا لضريح السيد البدوي الصوفي الشهير القادم من المغرب البعيد. وقبل هذا الاستقرار في مصر كان قد واصل دراسته فتخرج في مدرسة اللاهوت بالأستانة وتجول في معظم مناطق أوروبا واقترب كثيرا بتجربته من التصوف والفلسفة ثم وضع حصيلته في كتابه (مذكرات سائح).

هذا الهوني الليبي المتنور أنجز عدة مؤلفات مهمة تتعلق بالدفاع عن الإسلام والتصدي بالنقاش والحوار لتشويه صورته من قبل المستشرقين. ووضع دراسات مهمة في التوراة والإنجيل وتاريخ الأديان ومقارنتها ومايتعلق بإبطال صلب المسيح ونفي ألوهيته وإثبات رسالته، وغير ذلك من موضوعات أعمل فيها فكره وجهده الثقافي خلال تلك السنوات.

طبع الهوني بجهد شخصي وحماس لايفتر كل هذه المؤلفات النادرة في مطبعة النهضة بالقاهرة والمطبعة اليوسيفية بطنطا حيث أقام وتزوج كما نشر مقالاته الشهيرة في جريدة الحضارة العربية عن فظائع الطليان في وطنه وعرف بأنه أحد مشائخ الطريقة الشاذلية هناك.

هذه المؤلفات التي كان يشير في بعضها إلى أنها طبعت خدمة (للديانات.. الإسلامية واليهودية والمسيحية والبوذية والبرهمية)! كان يسبقها تقدمات من علماء وشيوخ في (مصر المحروسة) وكان يصدرها باسم محمد البشير السنوسي أو باسم محمد البشير.. المبشر الإسلامي أو باسم الشيخ محمد البشير السنوسي الطرابلسي المغربي.... وهكذا.

يقول الهوني في مقدمة أحد كتبه عام 1929: (فهذه كلمات أوردناها تبيانا للحق ودحضا للباطل ودفاعا عن الحقيقة إزاء الهجمات المنكرة التي يقوم بها طائفة المبشرين من متشردي أمريكا والاعتداءات الظاهرة على الشريعة المطهرة ومن هذه الكلمات يتبين أيضا أن دين الله واحد في كل الأزمان وإنما حصل الخلاف بتحكم الأهواء ومأرب الرؤوساء..)

من كتبه النادرة التي لم يهتم بها أحد من بحاث ودارسي ليبيا (العقود اللؤلؤية في أحوال الشاذلية).. عام 1927. مذكرات سائح. النور الساطع والبرهان القاطع في الرد على المبشرين.. عام 1929. آراء الكتاب في السفور والحجاب. جولة في القطر المصري. الاتحاد الأوروبي والغرض منه! (قبل إعلان قيامه بزمن بعيد). البحث الجليل في تناقض آيات التوراة والإنجيل. ليس في الإمكان أبدع مما كان.

تاريخ ثقافي مهم في وقت مبكر وصعب يحتاج إلى عناية وبحث وتحقيق وإعادة طبع ودراسته وتقديمه للمهتمين ومعرفة الرؤى والأجواء التي نشأ فيها هذا التاريخ وكتب خاصة إذا ما أدركنا أن هذه الأعمال الفكرية الليبية استغرقت سنوات هجرة الهوني وإقامته في تركيا ومصر وبحثه وتنقله سعيا وراء الحقيقة والمعرفة العلمية في وقت لم تتوفر فيه الوسائل التقنية والمواصلات السهلة والإمكانيات المساعدة.

عقب زيارة سريعة إلى المرج عام 1946 عاد البشير الهوني إلى طنطا. توفي ودفن بها قرب السيد البدوي. رحلة كانت مليئة بالإضاءات التي تفيد الثقافة والفكر في وطن ينشغل عن رواده ورجاله.. ويولي قفاه للمعرفة. ويصفق للجهل على الدوام!