Atwasat

تجريف الأرض ومن عليها

سالم العوكلي الثلاثاء 06 أكتوبر 2020, 06:36 صباحا
سالم العوكلي

حين عرفني الصديق نجيب الحصادي على أستاذ الفلسفة الذي كان يشرف على ورشة كتابة السيناريوهات المستقبلية للدول، أقيمت لنا في دبي، ضمن تدريبات مشروع ليبيا (2025)، سأله عن طبيعة عملي، فقال لي نجيب هل أخبره بعملك الحقيقي الآن؟ فقلت له نعم حتى يعرف طبيعة الدولة التي نحاول أن نرسم لها سيناريوهات مستقبلية، وأخبره نجيب أني أعمل الآن (حارس مبنى ثانيا) في قطاع الزراعة، ضحك البروفيسور، وتداعى حديث الشجن عن تجربة زياراته إلى ليبيا، وهو المخطط الاستراتيجي الذي صمم عدة رؤى استشرافية لدول آسيوية من ضمنها سنغافورا. وبالطبع كانت محاولة كتابة سيناريوهات مستقبلية لدولة لا تستطيع أن ترسم فيها سيناريو لحياتك الخاصة من الصعوبة بحال، وإذا كان لكل حكاية لا تنتهي بداية فحكاية حارس المبنى الثاني تبدأ من هنا:

بعد أحداث أبريل الدموية التي حدثت في فرع جامعة (قاريونس) بالبيضاء، يوم 11 أبريل 1982، وانقلاب معايير التقويم الأكاديمية إلى معايير ثورية، أدركت أن حلمي ببعثة لإكمال دراستي العليا ذهب أدراج الرياح.

كنت وقتها في الفصل السادس ضمن طلاب قسم التربة والمياه بكلية الزراعة، وتبقى لي فصلان لإكمال درجة البكالوريويس، وكان علينا في العطلة الصيفية القادمة أن نعد بحث التخرج، واخترت وقتها أن أنجز هذا البحث في مشروع الكفرة الإنتاجي، ويرجع هذا الاختيار إلى محاولة رسم سيناريو لمستقبلي العلمي، يبدأ بعملي بعد التخرج في هذا المشروع الذي يتمتع بمختبر علمي مميز لدراسات التربة والمياه والنبات، وحيث كان العمل في الصحراء يوفر دخلا مناسبا يمكنني من الادخار كي أكمل دراستي على حسابي الخاص، وقضيت ذاك الصيف القائظ في رقعة صحراوية محاذية لأرض المشروع يتراقص فوقها السراب أحفر في رمالها الحامية قطاعات وأعود بالعينات إلى المختبر، وبقدر ما كانت الدراسة تنطلق من فكرة مضمرة لمواجهة الصحراء، بقدر ما كانت مهمة لتوسع مساحة مشروع الكفرة الزراعي في تلك البقعة الجرداء.

باعتبار المعرفة والثقة التي تشكلت بيني وبين مدير المختبر أثناء إعدادي للبحث، تقدمت بعد تخرجي بطلب للعمل في المشروع قوبل فورا بالموافقة على العمل في مختبر التربة التابع للمشروع، وحتى الآن تمشي الخطة كما أردت لها. غير أنه ما لبث أن صدر قرارا بإيقاف تعيين دفعات 1982/ 1983 من الجامعات الليبية حتى يُبت في وضعهم العسكري أو ما يخص قانون التجنيد الإجباري.

وقررتْ إدارة المشروع أن أباشر عملي في انتظار ما سوف يُستجد، وبعد ستة أشهر صدر إعلان بضرورة التحاقنا بالخدمة العسكرية التي كانت تسمى (خدمة وطنية). ولأن تعييني لم يتم دعاني مدير المشروع، مهندس أحمد العابدية، إلى مكتبه معتذرا، وقرر بأن أعامل لفترة عملي السابقة كعامل بأجر يومي، ولتعويضي، أجزى لي أجرا يوميا يعادل دخلي لو تم تعييني رسميا على الدرجة الثامنة، ورجعت بمبلغ لم يلب خطتي ولكني أعتبرته سيشكل خطوة أولى نحو تحقيق الحلم، لكن المعاناة بدأت ثانية حين تقدمت بطلب للكلية للحصول على كشف درجاتي (ترانزكريبت)، فرُفض طلبي حيث أُدرِجتُ بعد أحداث أبريل ضمن قائمة الطلاب المتحفظ عليهم، وكان من ضمن القائمة صديقي أبوبكر على يوسف من سبها، من القسم نفسه، المتفوق جدا والذي كانت تربطني به صداقة حميمة رغم التنافس بيننا في الدراسة. كررت طلبي للحصول على كشف الدراجات، واستخدمت بعض العلاقات، وكل مرة يُمهر الطلب بملاحظة (متحفظ عليه)، وحيث كانت قوائم الطلاب الممنوعين من العلم متوفرة في كل مثابات الجامعات وفي مكتب الاتصال باللجان الثورية، كان هذا هو الشأن الوحيد المنظم بعناية في ذلك الوقت في الجامعات الليبية.

حين فقدت الأمل، قررت العام 1985 الالتحاق بالخدمة العسكرية، وبعد إنهاء التدريب الأساسي الشاق، تم إلحاقنا بسلاح الدفاع الجوي، ولأننا درسنا كل المناهج باللغة الإنجليزية تم توزيعنا على غرف العمليات التي تحتاج إلى معرفة بالمصطلحات الإنجليزية، وأصبحت ضابط تمييز بإمكاني تسيير غرفة عمليات في الدفاع الجوي كما ينبغي. بعد عام سُرحنا من الخدمة على أن نلتحق بالمعسكر يوما كل شهر، وشهرأ في السنة، وداومت على هذا البرنامج بانتظام بعد تعييني في قطاع الزراعة بدرنة، لكني فوجئت (وما أكثر المفاجآت في جماهيرية الفوضى) باستدعائي مرة أخرى للخدمة العسكرية ضمن مواليد 1960، وذهبت بخطى ثابتة إلى مقر لجنة التجنيد أحمل بطاقتي المدججة بصورتي مرتديا ملابس عسكرية، واختصاصي كضابط تمييز في سلاح الدفاع الجوي، لكن رئيس اللجنة نظر إليها ورماها جانبا، وقال : عليك أن تنسى هذه وتبدأ من جديد. ومن جديد وجدت نفسي مرة أخرى في قلب العبث الذي تدار به هذه الدولة التي تتلاعب بالناس، وحيث كانت الكفاءات تُلقى بين أسوار معسكرات لأعوام طويلة لا تفعل شيئا، كان من الواضح أن الغاية من الخدمة الوطنية وضع عموم الشعب تحت الأوامر العسكرية، وإجراء التمام اليومي عليهم للتأكد من تواجدهم داخل الحدود والاطمئنان على أنهم مازالوا مواطنين تحت الأوامر.

بعد أحداث ابريل تلك، ومثلما حدث قبلها في جامعات أخرى، أصبح طلاب المثابات يسيطرون على الجامعة والكلية، وعلى إدارتها وأعضاء هيآت التدريس الذين كانوا في كلية الزراعة آنذاك كلهم أجانب وعربا ولا وجود لعنصر ليبي. وفي النهاية كان يُرشِّح طلابُ المثابة أنفسهم للدراسات العليا، رغم معدلاتهم الضعيفة، ويذهبون ليستلم المثابات جيل آخر يعمل بمثابرة على محاربة أي تفوق أو تميز او نبض جديد. وأصبح يوم السابع من ابريل الذي شُنق فيه طلاب في الحرم الجامعي مناسبةً سنوية يُحتفل بها، وذكرى دورية لتصفية أي نبض أو تميز أو طموح في الجامعات.

حين عثرت العام 1988 على مذكرة صغيرة سجلتُ فيها هواتف أصدقائي من طلاب الكلية والقسم الداخلي، لاح لي اسم صديقي أبوبكر علي يوسف الذي لم أتواصل معه منذ تخرجنا ــ عرفت من بعض الأصدقاء أنه عمل بمشروع مكنوسة الزراعي ورشحه المشروع لإكمال دراساته العليا لكن قائمة مكتب الاتصال باللجان الثورية اعترضت طريقه مرة أخرى، ثم حاول عن طريق كلية العلوم بجامعة سبها لكن المصير نفسه كان في انتظاره ــ حين لاح اسمه ورقم هاتفه الأرضي اتصلت به، فرد صوت أخبرني انه شقيقه، وحين سألته عن (بوبكر) صمت قليلا ثم قال: أبوبكر خارج البلاد. فرحت وقلت له: هل تحصل على بعثة للدراسات العليا؟ وحينها استدرك وقال: من أنت؟ أجبته أن فلان من درنة ومن دفعة أبوبكر في كلية الزراعة. فتنهد وقال: أبوبكر في السجن. كان أبوبكر طالبا ذكيا ومهذبا وحالما بأن يخترع طرق ري مناسبة لوطن تكثر فيه الأراضي الخصبة ويشح الماء. وكنت وقتها أحلم بإكمال دراساتي العليا في مجال البيئة حيث عشت في الجبل الأخضر أراقب عن كثب كيف تزحف الصحراء على مساحاته الخضراء، غير أن التصحر اجتاح هذه الغابات حتى من الشمال حين أزيلت مئات الهكتارات من الغابات الكثيفة على الشواطئ بحجة إقامة مشروع 100 ألف رأس من البقر الذي لم يكن سوى ذريعة لمشروع الفوبيا المسمى "تحصين الساحل" ضد أي إنزال إمبريالي، وصاحِبُ المشروع نفسه قال بعد فترة، وبعد أن صُرف على هذا المشروع عشرات الملايين وجرفت من أجله آلاف الهكتارات من الغابات، قال: أن ليبيا لا تصلح لتربية الأبقار وهي مناسبة فقط لتربية الدجاج والإبل.

كان هذا التصحر هاجسي، لكن مع الوقت رأيت التصحر الذي يزحف على كل شيء، على المؤسسات والقوانين والعقول والثقافة والفنون وكل مقومات الإنسان العصري، وربما هذا هو السبب الذي جعلني أنأى عن العمل في اختصاصي وأتفرغ للكتابة التي تشبه هذا الهذيان.

وما يحدث الآن في ليبيا هو نتيجة لهذه العقود من سياسة التجريف والتصحر، التي وضعت ركيزة ردم الكفاءات وتطفيح نظام التفاهة الشامل الذي نراه الآن يسيطر بجدارة على كل شيء في هذا البلد التعيس. حيث استمر إقصاء الكفاءات بعد سقوط النظام (ما تعرض له د. محمود جبريل مثال واضح) وقانون العزل السياسي كان نسخة من قانون الفرز الثوري.

ملاحظة أخيرة: سأحال إلى التقاعد قريبا دون أن أحظى بفرصة ترقيتي من حارس مبنى ثان إلى حارس مبنى أول.