Atwasat

التكلفة السياسية «2»

رافد علي الخميس 01 أكتوبر 2020, 12:27 صباحا
رافد علي

البعد الصوفي
تقول السيدة فاطمة عبدالهادي، من أولى قيادات الأخوات المسلمات في حركة الإخوان المسلمين، تقول في كتابها «رحلتي مع الأخوات المسلمات من الإمام الشهيد إلى سجون ناصر» عن دار الشروق، تقول إن القسم كان في بدايته مهتماً بالمنتسبات أو غيرهن بقصد إعدادهن -روحياً وذهنياً- ليصبحن زوجات صالحات للأعضاء الذكور.

الحالة التربوية التي تشير إليها السيدة فاطمة تعتبر من صميم النشاط الإخواني عند انطلاقه من حيث البرنامج التربوي الذي أعده الشيخ المؤسس حسن البنا لحركته. فالشق التربوي للإخوان المسلمين - للجنسين- لم يكن بارزً فقط كون أن الحركة قامت على أساس «دعوي وإصلاحي» ضد حالة التغريب من جهة، وضد ظاهرة الابتعاد عن «أصل الدين» من جهة أخرى، بل المثير للانتباه أن النهج التربوي كان مطعما بحس روحاني صوفي غزير، كون الصوفية «طريق لله»، فقد كانت أمهات الكتب الصوفية كشرح حكم ابن عطاء الله السكندري، ورسالة المسترشدين للحارث المحاسبي، والأنوار المحمدية للنبهاني، والرسالة القشيرية، وإحياء علوم الدين للغزالي، تشكل ركنً مهماً في تشييد البعد الروحي لأتباع الحركة والمنتسبين إليها، بل إن البنا تنظيميً كان يحتفل بالمولد النبوي بشكل جماعي مع أنصاره كما في الطرق الصوفية، واعتمد لحركته منهاج الترقي الروحي عند المحاسبي.

البعد الصوفي في ظهور حركة الإخوان ليس وليد الصدفة أو كان نتاج تدبير احترازي للحركة بعد انخراطها في العمل المجتمعي، أو حال اقتحام الحركة للسياسة والانزلاق نحو العنف، بل بالعكس، فالبنا، كما يرى حسام تمام، كان قد شب على الصوفية، وكان من رواد فعاليات الطريقة الحصافية بالمسجد الصغير، الذي تعرف فيه على رفيق دربه أحمد السكري، الذي كان وكيل الإخوان مع بدايات الحركة. كما أن البنا ازداد حماسة لاكتشاف عوالم الطريقة الحصافية، بعد أن عثر بمكتبة والده أن له في الحصافية رسالة قصيرة تحت عنوان «تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الزروقية». وأثنى البنا في مذكراته «مذكرات الدعوي والداعية» على الصوفية بكونها الطريق «إلى الله في تربية النفس»، منوها بمدى أهمية تلاحم الروح الصوفية مع «قوة الأزهر العلمية» و«قوة الجماعة الإسلامية»، الأمر الذي من شأنه أن يخلق أمة مختلفة وقوية.

في المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين أعلن البنا أن حركته «دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية...»، هذا الإعلان لم يكن قاصراً على استقطاب أتباع التيارات الأخرى تحت لواء دعوته أو حركته بذاك الوقت، بل كان البنا ولا شك يرسخ مفهوم الشمولية في الإسلام،(1) الذي ترتكز عليه الحركات الإسلامية، خصوصا في العصر الحديث المبني على مبادئ التخصص والمدنية. رغم تعزيز البنا بناءه الفكري لحركته باعتبار أنها حركة «تتسع لما يتسع له الإسلام» التي أسسها على أثر نهاية الخلافة الإسلامية بقرار من كمال أتاتورك، نجد أن انتقاداته التي وجهها للصوفية بأسلوب سلس في مذكراته المذكورة أعلاه، نجده يقع بذات أخطاء الصوفية التي تقهقرت كـ«أسلوب حياة وكنهج تفكير» في ثقافتنا.

يقول حسن البنا، مسجلاً نقده للصوفية، إن للسياسة وتدخلاتها دورً سلبياً على التشكيلات الصوفية، وإن الطوائف الصوفية بسبب السياسة وانخراطها فيها نظمت «أحيانا على هيئة النظم العسكرية، وأخرى على هيئة الجمعيات الخاصة.. حيث انتهت إلى ما انتهت إليه من هذه الصور الأثرية». هذا النقد المذكور بمذكرات الدعوي والداعية ينطبق على حركة الإخوان المسلمين ذاتها، التي تناست نهجها الاجتماعي لتتمرس في السياسة وتقيم الجهاز الخاص كفرع مسلح ينشط في الخفاء.

لقد تلاشى البعد الصوفي في حركة الإخوان مع انغماس البنا وحركته في السياسة بمجرد استحضار حالة مكافحة الاستعمار، ومع تنامي الحياة الحزبية بشكل تنافسي في مصر في معركتها السياسية ضد الإنجليز من جهة، أو مع القصر من جهة أخرى، فللبنا رسالة «مناجاة» صوفية تنم عن متصوف متمكن، إلا أن هذه الرسالة لم يكتب لها الانتشار بسبب الانشغال في السياسة إلى درجة الصدام مع الحكومة وصولا لاغتيال النقراشي وما نتج عنه من صدور قرار سيادي يقضي بحل الحركة. انزلاق حركة الإخوان في العنف الدامي أيام البنا لم يكن حالة انحراف مفاجئ. فالبنا في تأسيسه لحركته معتمدا على روحانيات صوفية بشكل انتقائي بغرض ترسيخ نهجه التربوي، كان واضحا أنه يرفض الطريقة المغلقة للدعوة الصوفية في نشاطها مجتمعيا، فتجاوز شيوخه الصوفيين أصحاب الطرق لينشئ نمطا تنظيميا جديدا للإخوان المسلمين، سماه أحمد تمام «الصوفية الحركية العسكرية»، والذي لم يتردد البنا في الإعلان عنه في إحدى خطبه قائلاً: «الدعوة في هذا الطور صوفية بحتة من الناحية الروحية وعسكرية بحتة من الناحية العملية»، كما ينقل تمام عن البنا في مقالته «الإخوان والصوفية... ماض غير مستعاد».

إن التكلفة السياسية التي تحملتها حركة الإخوان بتلك الأيام لا شك أنها كانت باهظة، بحيث إنها خسرت كثيرا في تحولها من العمل المجتمعي لتتخندق في السياسة، فتحولت بالتالي أسسها التربوية من الطريق إلى لله، إلى خط سير آخر انتهى عند محطات الربيع العربي بكل إخفاقاته وتقهقراته. إن التكلفة السياسية أمست تتزايد على الجميع وبلا مواربة، خصوصا لمنظمة ولدت بروحانيات غزيرة نحرت في تخبطات السياسة وهي متشبثة بأدلجة الدين لأجل السلطة، رغم أن الإخوان المسلمين في تأسيسهم الثاني كانوا قد تخلوا في مصر -على الأقل- ضمنيً وبلا إشهار حقيقي عن حلم الدولة الإسلامية في خطابهم العام، وانصهار الحركة في هموم الدولة القطرية ومجتمعها. فـ«من يتابع الخطاب والمسلكية الإخوانية سيلحظ بسهولة أن خطاب إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة قد توارى تماما في السنوات الأخيرة حتى صار لا يكاد يبين!»، حسب ما يورد تمام في كتابه «تحولات الإخوان المسلمين. تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم»، عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، في معرض حديثه عن «الفجوة» الفكرية للإخوان، إذ إنها تتبنى مواقف عصرية تجاه تطورات الأحداث من حولهم فقط حينما تكون محشورة في زاوية ضيقة، ولا تتردد في سبيل الخروج من المأزق أمام الجميع بأن تتبنى مواقف مفكرين إسلاميين مستقلين للخروج من مأزقها الحرج أمام الشارع والميديا عمومً، ويستدل تمام في ذلك بقضية تبني المرشد مصطفى مشهور العام 1996 رأي طارق البشري في قضية المواطنة لكل المصريين كشعب متعدد الشرائع، بعد أن صرح مشهور بأن الأقباط يحق مطالبتهم بالجزية كونهم أهل ذمة، مما أثار الكثير من الجدل والتساؤلات.

التكلفة السياسية هنا تبدو مروعة لجماعة تعتبر نفسها تحترف السياسة وتسعى «بحلم وردي» لخلق كيان دولي يجمع الإخوان من كل الأقطار الإسلامية! بغض النظر عن الانتقادات الموجهة للصوفية لترسخ عنصر العرفان في كينونتها، فإن ابتعاد الإخوان عن الروحانيات، أو تخليها عنها، فإنه نتاج يأتي ضمن تحولات فكرية وأيديولوجية عديدة للحركة، يسجل فيها الجناح المحافظ للإخوان على مر عقود عمرها مكاسب كثيرة تجعل من الروح الإصلاحية بين صفوف الإخوان تبدو محاصرة أو موسمية، كما تدل الأحداث والتاريخ بالمنطقة، ليس في مصر، بلاد التأسيس فقط؛ بل وفي غيرها، كما في تونس اليوم، حيث إن الأسلمة للمجتمع ما زالت تسير وبهدوء.

أما في ليبيا فما زلنا لا نرى إلا طيفاً واحدً للإخوان، وهو التيار المحافظ، الذي لا يتوانى في رفع السلاح ضد أي تغير أو تسويات لا تروق له. فالتيار الإصلاحي لا يزال محتشما رغم هول الحريق بالبلاد. لقد صار جليا أن الحركة قد جنحت عن أساسها الإصلاحي المجتمعي الذي أشهرت نفسها به، وأصبحت غير قادرة على جمع شتات الواقع الاجتماعي قطريً، وعربيً وإسلاميً، لا تكتيكياً وحسب، وفق ادعائها الفضفاض بأن الحركة «تتسع لما يتسع له الإسلام»، بل عزفت علميا عن دراسة مجتمعها لرسم رؤية مجتمعية في أقطارها بروح حديثة من خلال قوة الاستدلال العلمية، بدلً عن ممارسة طقوس التقية مرة أو نهج التغول السياسي مرة أخرى أو الانزلاق للعنف في أقرب الفرص في ثالثة.

----------
(1) مبدأ الشمول في الإسلام، الذي يعتمده التيار الديني في نشاطه السياسي يعتبر أن الإسلام شامل للمكان من حيث إن أصوله كلية ومقاصده موحدة مع كل الديانات السماوية، رغم اختلاف أزمانها، كما لا تقتصر شمولية المكان على بقعة جغرافية بعينها «نظرً لعدم اعتراف الإسلام بالحدود المصطنعة». الشمولية الإسلامية تنصب أيضا على عنصر الزمان، والتي تختصر في أنه دين صالح لكل زمان ومكان، أما شموليته للإنسان فهي لأن الإسلام لم يأت لقوم أو جنس بعينه، فقواعد الدين ترتكز على الجوانب العقلية والجسدية، وتعاليمه تشمل جميع مراحل عمر الإنسان من الميلاد حتى الوفاة. فالشمولية هنا نابعة من الآية الكريمة «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»، حسب ما يشرح الدكتور إبراهيم الديب في كتابه «قيم تربوية في دائرة الضوء».