Atwasat

(الهوا أم الهوى؟)

جمعة بوكليب الخميس 01 أكتوبر 2020, 12:21 صباحا
جمعة بوكليب

لو لم يمنّ الله عليّ بنعمة  عادة  قراءة الصحف، لما كنتُ وقعتُ في حب قراءة ومتابعة مقالات كاتب صحفي مصري  اسمه طارق الشناوي. ولما كنتُ عرفتُ، بعد قرابة نصف قرن من الزمن أو أكثر،  ما كان يقصده، ببيع الهوا، مؤلف أغنية "بيّاع الهوا راح فين" المشهورة التي يصدح بها صوت المطرب الشعبي المرحوم محمد عبد المطلب. وأظنني لستُ الوحيد في ذلك. لأن المرء- إن لم يكن مصرياً قاهرياً وصاحب مزاج- لدى سماعه للأغنية، لا يفكر بأن المقصود ببيّاع الهوا، في اللهجة الشعبية المصرية،  بيّاع الحشيش! ولكان ظن خطأ – مثلي - أن المؤلف يقصد ببيّاع الهوا بائع الهوى. والمصطلح  الأخير، كما أعرفه، يحيل إلى مستويين من الفهم. المستوى الأول  مستوى حسن الظنّ، حيث يعتقد  السامع للأغنية – كما حدث لي -  أن  بيّاع الهوى المقصود في الأغنية، هو المحب غير المكترث، الذي يتنقل من عشق لعشق، من دون مبالاة بمشاعر الآخرين ومعاناتهم عاطفياً، وما يسببه له تركهم من آلام، وكأنه يبيع الهوى. المستوى الثاني في الفهم يحيل على فئات مجتمعية من محترفين (مومسات وقوادين) امتهنوا صناعة بيع الهوى.

قبل أن تتيح لي الفرص قراءة مقالة الكاتب طارق الشناوي، على موقع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، كنتُ طيلة عقود من الزمن، كلما سمعتُ الأغنية، أطربُ لها، وأرددُ مع المطرب المرحوم محمد عبد المطلب كلماتها، من دون توقف، ولو لمرّة واحدة،  للسؤال ما المقصود ببياع الهوا – الهوى. ولم يخطر ببالي مطلقا وجود علاقة من أي نوع  تربط بين الأغنية وبيع الحشيش. وعقب قراءة المقالة المذكورة، قمت مباشرة بالبحث عن الأغنية في موقع غوغل بالشبكة العنكبوتية، وأعدت سماعها بالفهم الجديد، بعد أن عرفت تفاصيل الحكاية، التي حرص مؤلف الأغنية على توثيقها شعرياً. بعدها قمتُ بالبحث عن الأغنية مكتوبة للتحقق من الكيفية التي كتبتْ بها الكلمة اللغز التي تأتي بعد بيّاع: الهوا أم الهوى؟  فاتضح لي أن معظم النسخ المعروضة تتبنّى رسمها بألف مقصورة، مما يعني أن من قاموا بتوثيقها على صفحات موقع غوغل، كانوا على غير علم بحكايتها، ولهذا وقعوا في نفس الخطأ الذي انزلقتُ فيه أنا وغيري منذ سنين طويلة. وفي الواقع فإن اكتشافي الجديد للأغنية، أدخل بهجة إلى نفسي، ولم أزعل مطلقاً من غباء سوء اسيتعابي لها سابقاً. والسبب بسيط وهو أنه ليس  خطئي أنني لم  أولد مصرياً، ولم أعش في حواري القاهرة، أو غيرها من المدن المصرية، ولم أكن من أصحاب المزاج، لأعرف أن بيّاع الهوا تعني شعبياً بائع الحشيش، وأن المؤلف كان في الحقيقة زعلانَ، لأن البوليس، استناداً لطارق الشناوي، قبض على "أم عنتر"، التي كانت تبيعه الحشيش، وغيبّها وراء القضبان، وبقي المؤلف يندب غيابها لحرمانه من جرعة هوا.

كيف أجازت الإذاعة المصرية، آنذاك، أغنية تتناول رواية حكاية عن بائع  حشيش قبضت عليه الشرطة؟ يقول الشناوي موضحاً لأن مؤلف الأغنية شاعر غنائي كبير اسمه عبد المنعم السباعي، كتب أغانيَ رائعة وعديدة لنجوم الغناء آنذاك، وكان، في نفس الوقت، ضابطا في الجيش برتبة رائد ومن رجال الصف الثاني في ثورة يوليو 1952، وملحنها وأحد اساتذة التلحين وهو محمود الشريف، ومغنيها أستاذ الطرب محمد عبد المطلب. هذا الثالوث الفني جعل المسؤولين في الإذاعة المصرية يتغاضون عن المعنى ويجيزون الأغنية.

ما فعله بي الكاتب طارق الشناوي، عقب كل تلك الأعوام الطويلة، هو أنه تقدّم باتجاهي مبتسماً، وبود ورشاقة ربت على ظهري تربيتة خفيفة. وحين التفت نحوه،  فإذا به يقدم لي مقالته لأقراها، لمعرفة  التفاصيل الواقعية وراء تأليف تلك الأغنية المشهورة، وأيضاً لأنتبه لحقيقة التباين في خصوصية الواقع المصري، رغم قربه الجغرافي من ليبيا، وما يجمعهما من روابط  تاريخية ودينية ولغوية. بل وجعلني أفتح عينيَّ على اتساعهما لأرى تلك الخصوصية  المميزة وانعكاسها في نتاجه الفني والأدبي. والحقيقة، أن الحكاية  وراء تأليف الأغنية غريبة ومدهشة وشديدة الواقعية، وأضاءت جانبا مهماً لي، جعلني لدى إعادة سماع الأغنية، لا أكتفي بتريد الكلمات واللحن مع المرحوم "طِلبْ" كما كنت أفعل في السابق، بل صرت أيضاً أتخيل ذلك الطابور من الواقفين أمام شباك  بيّاعة الهوا "أم عنتر"، في إحدى حواري القاهرة منذ أكثر من نصف قرن مضى، وهم في حالة  انتظار ظهورها في الشباك، للحصول على ما يكفيهم من جرعات هوا، وعلى أمل أن يعودوا إلى بيوتهم ليخدروا عقولهم، وليستريحوا من عناء مشاكلهم وهمومهم.

لو أن الله أمدّ في عمر المؤلف، وعاش حتى وقتنا هذا، لما كان تعرّض لمعاناة غياب أم عنتر، ولكان الهوا يصله، أصنافاً متنوعة، بماركات قادمة من أقصى جبال تورا بورا في افغانستان إلى أقصى جبال الاطلس بالمغرب.