Atwasat

المصعد الشفاف وبرميل النفط المعتم

سالم العوكلي الأربعاء 30 سبتمبر 2020, 01:46 مساء
سالم العوكلي

المرة الأولى التي أستقل فيها مصعدا زجاجيا شفافا في ناطحة سحاب، كانت في شهر نوفمبر من العام 1987 في سنغافورا، حين كنت في جولة سياحية في شرق آسيا. كان ذلك الصعود مبهرا في وقته، وعبر أفق ممتد دون نهاية كنت أرى حدود الدولة الصغيرة كلها ومحيطها الهندي الأزرق، ومضيق جوهور الذي يفصلها عن ماليزيا، ومعبد هونج بيك الذي تُؤدَّى فيه شعائر كل الأديان، الإسلامية والهندوسية والطاوية والمسيحية، التي تجاورت بشكل مذهل في هذا الحيز الجغرافي الصغير. كل الدولة وجزرها المتناثرة وعاصمتها الجنوبية الصغيرة كانت على مرمى البصر، بينما تلك الأبراج اللامعة التي لمحتها من الطائرة التي أقلتني من بانكوك كانت تبدو كأكواب بلورية على سُفرة خضراء من العشب والغابات التي احتفظتْ بها رغم أن مساحتها التي لا تتجاوز 800 كم مربع يقطنها أكثر من ثلاثة مليون نسمة في ذلك الوقت. سنغافورا التي كانت تسمى جزيرة البعوض أصبحت تسمى المعجزة أو جزيرة الحدائق، حيث لم تكن حتى استقلالها العام 1963 سوى قاعدة للأسطول البريطاني. ومثلما كان معراجي في  المصعد الزجاجي يشبه المعجزة في ذلك الوقت فالجزيرة برمتها معجزة لدرجة أن د. مصطفى محمود جعلها في الثمانينات موضوع إحدى حلقاته من برنامج "العلم والإيمان".

وراء معجزة سنغافورا يقف مؤسس اسمه، لي كوان يو، أول رئيس وزراء لجمهورية سنغافورة التي حكمها لمدة ثلاث عقود متتالية، مؤسس الدولة الذي نقلها من العالم الثالث إلى الأول خلال أقل من جيل، وهو من وضع رؤية استشرافية شاملة لتطوير الدولة ووضع لها نظاما قانونيا واضحا وفعالا جذب الاستثمارات العالمية، فاعتمد اقتصادها على مبدأ السوق الحرة ما جعلها تحتل بعد عقدين المرتبة الثانية بين اقتصادات السوق الحرة في العالم  "ويعود السبب في ذلك إلى التشديد المبكر على الحداثة والتقدم على أساس التعددية العرقية وحكم الأكفأ، والتوجّه نحو تنويع الاقتصاد، ونبذ كافة أوجه الفساد. 

طيلة فترة تسكعي في شوارع سنغافورا، وأرجاء الجزر الصغيرة التابعة لها، لم أشاهد صورة زعيم أو قائد معلقة، ولا في أخبار تلفزيونها الأولى أو صفحات جرائدها الأولى، ولا في سماوات الساعات الخضراء التي يرتديها المريدون. كنت أنا القادم من شبه قارة شاسعة تنتشر صور زعيمها في كل مكان بينما كل ما فيها ذاهب إلى الهاوية والفشل رغم ما تتمتع به من موقع ومساحة زاخرة بالثروات النفطية آلت في النهاية لأن تخرج عن سياق العالم عبر عزلة قاتلة وليس العالم الثالث فقط.

حين كان المصعد الزجاجي يمخر بي عباب الفضاء متوجها إلى السفارة اليونانية في الطابق الخمسين، تذكرت طفولتي حين كنت أعيش في أحد خلاءات تلك القارة المسماة حتى ذلك الوقت ليبيا، وتذكرت لعبتي القاسية قبل 20 سنة من ذلك الصعود الساحر، حيث كنت أدحرج برميل نفط صدئ صوب أعلى التلة المتاخمة لكوخنا الصفيحي، وحين أصل قمته أنطرح داخل البرميل وأتدحرج به حتى أسفل التلة لأخرج منه، كل مرة، مليئا بالكدمات والخدوش. وكانت هذه المفارقة كأنها تفسر حال البلدين، فكان صعود المصعد الشفاف الذي يعرض أجمل المناظر على الإطلاق يشبه صعود جمهورية سنغافورا في كل المجالات العلمية والتنموية مع اعتماد سياسة الشفافية القصوى، وهي أول إدارة استخدمت الرقابة الإلكترونية الوقائية ضد الفساد. بينما كان تدحرج برميل النفط الصدئ يعكس الواقع الليبي خلال تلك العقود، حيث كل ما في الدولة ينحدر ويتهاوى في قلب عتمة تشبه عتمة ذاك البرميل. وأدرك الآن وقبل ذلك ودائما أن ثنائية القانون والشفافية هي الرادع الفاعل للفساد، والفساد هو الركيزة التي جعلت من هذين النموذجين نقيضين تماما. ففي الوقت الذي كان يرسي فيه لي كوان يو دولة القانون والشفافية، كان في الوقت نفسه يرسي جنرال مغامر جماهيرية الفوضى العارمة الفارغة من المؤسسات والقانون. وتحول النفط من نعمة إلى نقمة ولعنة حين أرسى اقتصاد الدولة الريعية الذاهبة نحو الاستبداد، وأصبح ممولا لجميع الحركات الإرهابية في العالم، بينما أغلبية الليبيين مثلي لم يستفيدوا من تلك الثروة سوى تلك البراميل الفارغة الصدئة التي تحولت إلى متاريس ملونة في البوابات التي انتشرت على الطرق الليبية، تنشر الخوف والذل بين العابرين، وكأنهم يسافرون في وطن ليس وطنهم.

مازال مثلث الزفت الأسود؛ الذي يشبه مثلث برمودا، يثير الحروب والصراعات في دولة شاسعة، تقلصت مساحتها إلى هذا المثلث الذي لا يرى العالم والمتدخلون في الشأن الليبي شيئا من الخارطة سواه، ومازال يُفرِّخ يوميا دفعات متتالية من الفاسدين الذين تزاحموا كالذباب على هذه الثروة.

العام 2011، وفي بداية ثورة 17 فبراير،  تعرفنا وصديقي أحمد الفيتوري في دار ميريت بالقاهرة ــ عندما كنا نطبع الأعداد الأولى من جريدة ميادين ــ على مثقف نرويجي مهتم بثورات الربيع العربي، والذي جاء بعدها إلى بنغازي مبعوثا من الحكومة النرويجية التي كانت تنوي تقديم الدعم والمشورة للدولة شبه الخالية من المؤسسات والقانون، وقد عُين النرويجي (مارتن) فيما بعد سفيرا للنرويج في طرابلس لفترة محدودة. وأذكر أنه قال لنا: ثمة تشابه بين النرويج وليبيا. وحين رأى علامات الاستغراب بادية على وجوهنا، أردف: كلاهما تتمتع بثروة نفطية ضخمة وعدد سكان قليل، وهذه المعادلة تشكل بيئة خصبة للفساد. وفسر سبب مجيئه لليبيا بأن حكومته تعرض تقديم خبراتها لليبيا الجديدة فيما يخص نظام الرقابة والمحاسبة، وإدارة عقود النفط، وغيرها من استحقاقات الدولة المنشودة مثل منظمات المجتمع المدني وإدارة الانتخابات والإشراف عليها، والنرويج تملك خبرات مهمة في كل هذه المجالات. واستدرك مبتسما: ولا أحد سيقول أن النرويج دولة إمبريالية أو طامعة في خيرات ليبيا. حين حاول مارتن اللقاء بأعضاء المجلس الانتقالي لم يستقبله أحد أو يعره اهتماما، وفسر ذلك بكونه لم يأتِ في موكب سيارات مثل الآخرين أو طائرة خاصة، حيث أنه وصل إلى بنغازي في طائرة الأمم المتحدة.

في الخطة الخمسية (1969 ــ 1974)  التي بدأ  إعدادها رئيس الوزراء السابق عبد الحميد البكوش واستكملت بعد استقالته، والتي يذكر تفاصيلها د. علي عتيقة في كتاب مذكراته ، حيث كان وقتها وزيرا للتخطيط والتنمية، يَرِد منطلق مهم يتعلق بالثروة النفطية المتفجرة في هذا البلد قليل السكان حيث ثمة مخاوف تشبه مخاوف النرويجي من أن تفسد هذه الثروة الليبيين إذا لم تُدرْ بحكمة، إضافة إلى كل التفاصيل عن تنويع مصادر الدخل والاقتصاد الحر وتحفيز القطاع الخاص والتنمية المكانية وسبل الرقابة الوقائية من الفساد، وهي نقاط  تشبه إلى حد كبير ما ورد في خطط رئيس وزراء جمهورية سنغافورا السابق التي نقل بها بلده من العالم الثالث إلى العالم الأول خلال جيل واحد.

  بعد تقاعده، قال لي كوان يو : "كان لدي خياران: إما أن أمارس السرقة وأُدخل أسرتي في قائمة فوربس أغنياء العالم وأترك شعبي في العراء، أو أن أخدم وطني وشعبي وأُدخل بلدي في قائمة أفضل عشر دول اقتصادية في العالم.، وأنا اخترت الخيار الثاني."

والفارق أن من حكموا ليبيا منذ انقلاب 69 وحتى الآن اختاروا الخيار الأول، وهو ممارسة السرقة وترك شعبهم في العراء، دون أمل في إدخال أسرهم قائمة فوربس لأغنياء العالم لأنهم ببساطة لصوص أغبياء لا يتمتعون بكاريزما الانضمام إلى أي قائمة سوى قائمة اللصوص.