Atwasat

الذي حدث في إيسين

سالم الكبتي الثلاثاء 29 سبتمبر 2020, 01:07 مساء
سالم الكبتي

فزان البعيدة والصحراء. الحياة تنتعش رويدا في الولاية ذلك العام 1957. خرج الفرنسيون منذ عام مضى. عسكريون ومدنيون انسحبوا وخرجوا. عادت القلعة للجيش الليبي. أشرقت بزهو من فوق القاره على أحياء سبها الصغيرة. كانت الإدارة الفرنسية قبل الاستقلال من أسوأ أنواع الإدارات الأجنبية التي شهدها الوطن . الفرنسيون قهروا الجنوب الليبي وأبناءه وعرقلوا كثيرا الوصول إلى الاستقلال وكانت لهم أهدافهم ونواياهم الواضحة والمستترة في الجنوب بكامله ليس أقلها العمل على شطر الجنوب وفصله عن الوطن الليبي. ولعبوا ألعابا قذرة بين السكان بأجناسهم وأصولهم المتنوعة وخاصة الطوارق. محاولات الإيقاع والفتنة في الجسم الليبي الواحد هناك. حاولوا كثيرا وفشلوا واستخدموا البعض وقدموا لهم الكثير من العطايا والرشى وفشلوا أيضا. ونجح الوطنيون المخلصون في الجنوب في التصدي لكل هذه الدسائس خاصة عندما برزت محاولات لبذر الفتنة والشقاق وعرقلة  قانون الولاية الأساسي عام 1954. باختصار فشلت الخطوات.

كانت ظروف الولاية صعبة من كل النواحي. ولكنها مع الوقت نهضت من الرماد ولم تعد تلك الأيام فرنسية أو نسيا منسيا كما يتردد!!

وذلك العام 1957 تنشط الولاية وينشط أبناؤها رغم كل العوامل والاختلاف في الأراء وتباين المواقف . المطبعة في الشارع الكبير. آلاتها تهدر في الليل وجريدة فزان تنطلق. يديرها محمد الطشاني وفاضل المسعودي اللذين وصلا من القاهرة. رائحة الأحبار ورصاص الحروف وأنامل العمال وحبات العرق وبراح من هامش التعبير. وكتاب يرسلون بمشاركاتهم من طرابلس وبنغازي. أخبار ومقالات وقصص وقصائد. بداية تنوير. المطبعة والصحيفة والإمكانيات البسيطة تكبر ويزداد معها الحلم بغد جميل لفزان وللوطن.

وأصداء البلد القريب.. الجزائر تعم الولاية.. تصل إليها. وتغطي ليبيا كلها. الجزائر المحتلة من فرنسا التي كانت في فزان . عرفت الولاية معاني الاحتلال والقهر وأدركت مفاهيم الاستقلال والحرية في الوقت نفسه. شاطرت الجزائر نضالها. المظاهرات والتبرعات والتأييد ومكتب الجبهة وثوارها يعملون وتحيطهم الدولة وسط الأرض الليبية بالحماية والتقدير. رغم الكثير من الصعوبات والالتباسات والتجاوزات التي تحدث أحيانا من الثوار فقد ظلت ليبيا تسعى لأن ينال الجزائريون حريتهم في الوقت الذي تحافظ فيه على سلامة وأمن الوطن الليبي. الظروف والأحداث كانت متشابكة ولابد من عبور حقول الألغام بمهارة وصبر.

تلك الأيام أيضا الفرنسيون يلقون القبض على جميلة ويحاكمونها ويهددونها بالمقصلة. كانت حكايتها أسطورة عند الجميع في ليبيا والخارج. وصارت قصيدة وأغنية فوق شفاه الصغار والكبار. تداعى الوطن كله مع المآسي التي هزت ضمير العالم . الليبيون رسميا وشعبيا لم يتوقفوا في النهوض بواجب المساعدة للشعب في الجزائر ونضال ثواره عاطفيا وماديا وبكل الوسائل والطرق. مكاتب للجبهة في بنغازي وطرابلس وسبها رغم وجود السفارة والقنصلية الفرنسية في المدن نفسها. واحدة بواحدة. لم تخش الدولة شيئا ومعها الضغط الشعبي والاهتمام المتزايد بالقضية. أغلب دول العالم ذلك الوقت إلا فيما ندر ظلت تنظر بارتياب إلى فرنسا ومظالمها في الجزائر. حاولت أن تكبح جماح أنشطتها الاستعمارية. وبدأت تخرج من بعض أقطار إفريقيا تاركة خلفها العديد من الآثار العنصرية المقيتة رغم ماشهدته تلك الأقطار من تطور أو تغيرات كانت في صالح الوجود الفرنسي أكثر منه لأهل البلد الأصليين. ذلك العام .. السناتور جون كندي وكان عضوا في مجلس الشيوخ وقبل أن يصل للرئاسة الأمريكية بأربع سنوات جاهر بمواقفه المؤيدة للنضال الجزائري وربما استخدمها وسيلة لتلميع وجهه الانتخابي لاحقا. وعلى كل المستويات تردد بأن الولايات المتحدة لم تأل جهدا في إيصال مساعدات عسكرية انطلقت سرا من الملاحه في طرابلس إلى الثوار!!

وسبها الصغيرة.. تحلم بالشمس وتنشط . دكاكين . ومقاه. ومدارس ومعاهد ودور سينما ونواد وحركة كشفية وشبابية ومراكز ثقافية وتجارة مع مدن الساحل، لكن الطريق إليها لم تزل بعيدة. ظلت وعرة المسالك وسط الرمال ودروب السوداء والهروج والقاف. الوصول إلى سبها يستغرق أياما طويلة تقطع بالتعب والحكايات والأسمار وإيقاد النيران لحظة الليل توقيا للشتاء. لم تفتح الطريق إلا في سنوات تالية. وأحياء جديدة تنمو وتمتد وتنبسط حول سبها في الأرجاء. ومع ذلك لم تكن الولاية في عزلة  عن الوطن الواحد.

وهناك مع بدايات صيف 1957 قلق مكتوم في الصدور. عند الحدود الجنوبية. حيث غات تلامس جانيت. وأصول الطوارق واحدة وفرنسا تحاول إثارة الألعاب النارية بين تلك الأصول والجذور. هناك يتلامس الجيش الفرنسي. أفراد جبهة التحرير. ويشاهدون بعضهم البعض بالعين المجردة. وفي يونيو تحركات مريبة هناك من فرنسا وتهديدات مبطنة. وحساسية العلاقة بين الطوارق واستمرار المحاولات في اختراق الصفوف. والدولة تراقب. والإمكانيات ليست سواء بسواء مع فرنسا ورغم هذا لم تقصر في الواجب الوطني والقومي. بعض الثوار من الجزائر يحرقون آليات عسكرية فرنسية ويدخلون إلى إيسين القرية القريبة من غات. البداية تشعل النار. تهاجم القوات القرية. يتدخل الجيش الليبي. بعض المواجهات في الثالث من أكتوبر. تتعقد الظروف وتتأزم. وتعالج الدولة الموقف دون خوف وتُظهر الكثير من الوثائق المجهولة أسرارا لم تزل خفية عن أجيال اليوم.

إيسين تلك الأيام هدمت بعض منازلها وممتلكاتها وضاعت محاصيلها وشردت الكثير من عائلاتها ودفعت الثمن من أجل (العروبة).. لكن ظل ثمة شعور لدى أخواننا الجزائريين تلك الأيام بأن ماقدم من هذه التضحيات لم يقابل منهم بالتقدير أو الرضا. وغض الليبيون الطرف عن كل ذلك ولم ينقطعوا عن المؤازرة. لكنه ظل في ناحية أخرى يدعو إلى الحزن والمرارة بعض الوقت أو كل الوقت عندما تلوح تفاصيل التاريخ .. بكل حزن أيضا!!