Atwasat

الكتابة بين التجهم والتسامح ( 2-2 )

أحمد الفيتوري الثلاثاء 29 سبتمبر 2020, 01:03 مساء
أحمد الفيتوري

 النيهوم فلسفة التهكم ساخر من نوع مميز، كاتب لا يشبه أحدا، مقالاته كتابة نثرية، تبدو كما قصائد سردية، أو قصص كمقامات الهمذاني، غرضهما التهكم وإثارة السخرية، وفي الجملة اقتضاب وصورة كاريكاتيرية. تنسج المقالة في حال السارد الحكيم، من يفاجيء القارئ ويدهشه، فالجمل المتدفقة والمقالة المحبوكة، تنسج في قماشة المفارقة واللا متوقع، والمقالة ما تنشر كمقالة صحفية، تتمظهر أيضا بمقام المقامة، تتشيع للتهكم، فتسخر من شخصيات، في كاريكاتير رسم بالكلمات. لقد طرزمقالته بأيقونات، ما تعد حامل فلسفة السخرية النيهومية، شخصيات تتكرر في المقالات، مثل الحاج الزروق، والحاجة مدلله، وناتاشا التي تحتسي الفودكا..... وما يشبه ذاك.

الصادق النيهوم نجم النجوم،عند الكثير من قرائه، ظهر على صفحات جريدة "الحقيقة" 1964م، ليكتب من هلسنكي عاصمة فنلندا، عن الليبيين، مقالات ساخرة ومثيرة، ولينشر مقالات صحفية مترجمة، أعاد صياغتها، هذه المقالات التي تتناول مواضيع الساعة في تلك المرحلة، وتمس القضايا الساخنة من العالم. وفي أسلوب ساخر وتهكمي، وطازج ومثير، جذب القراء، وتحول صاحب هذا الأسلوب، إلي كاتب الصحيفة الأول والمبرز؛ علي يد صحفي قدير هو "رشاد الهوني"، رئيس تحرير صحيفة الحقيقة، التي تنشر هذه المقالات، مسلطة الضوء على كاتبها، في شكل صحفي جديد وجذاب. وحين حققت الجريدة ذلك، كان النيهوم قد أمدها بروح جديدة، بأسلوبه المميز، من حيث تركيب الجملة، ما تغترف من الأساليب الصحفية العربية "البيروتيه"، ومن الأساليب الكتابية في الصحف الإنجليزية اللغة، ومن الأدب الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب، كما تمثل في كتابة "أرنست هيمنجواي"، وترجماته العربية علي يد "منير البعلبكي"، من ترجم رواية هيمنجواي "الشيخ والبحر"، التي كانت إنجيل جيل النيهوم.

لقد عجن هذا الكاتب ذلك في تحولات، جعلت أسلوبه متميزا، وجملته مسبوكة، مصبوغة بروحه التهكمية، كابن لمدينة متوسطية صغيرة (بنغازي)، ما تبدو كميناء لقراصنة غدوا أشباحا. كان النيهوم يرسم شخصية كتاباته السردية، في شكل رجل عاطل، ليس لديه ما يفعل، سوى أن يتكئ في ركينة شارع، ليرمي المارة، بنظرة ساخطة ولسان لاذع، وفي مقالاته الفكرية يبدو كمتفرج حاذق، استعار باروكة فلسفة العبث السائدة آنذاك، ما تكرس مفاهيم اللامنتمي الحصيف.

لقد كان مفكرا ذا أطروحة إشكالية، تبحث في الدين، فتقدم اجتهادات مفارقة، وتكتب مقالات تتناول القضايا الاجتماعية، بفكر عقلاني نقدي، وتركب مركب المتهكم ما يستبيح التابوات، لذا حمل كديوجين مصباحا في النهار، للتهكم من المجتمع وأفراده، من يستكينون لظلمات نهارهم.

ولقد أشارت - حينها- صحيفة الصن البريطانية أول السبعينيات، إلي الصادق النيهوم - في مقالة صحافية عن ليبيا- بأنه يبدو كما فيلسوف هيبي: الفيلسوف الهيبي الذي وراء كولونيل ليبيا، وكان الكاتب علي فهمي خشيم قبلها، قد كتب مقالة بعنوان "الظاهرة النيهومية".

الزواوي متعة السخرية/ المعرفة لم يتمكن من مواصلة تعليمه، أبعد من السنة الرابعة الابتدائية، في المدرسة الداخلية بقرية الأبيار، التي تبعد عن مدينته بنغازي عشرات الكيلو مترات، لكن المعلم محمد الهنيد، وجده يرسم بالفحم على الحائط، وجوهاً ساخرة لمدرسيه وزملائه، فأوقد فيه نار الحب لهذا الفن. هذا الواقع الجهم والقاسي في حياة محمدالزواوي، نحا به إلى أن يكون الساخر، فتميز بخطوطه وتفاصيل لوحاته، ولم ينح إلى رسم شخصيات مشوهة ولم يشوه ما يرسم، فما رسم بدأ كما بورتريهات، لشخصيات ووجوه يقابلها في يومه، غاص في غور نفوسها. فتكشف أن الشخصية المأساوية التي يرى، شخصية مفارقة، كما الإله الروماني جانوس، تحمل وجهين، كاريكاتير محمد الزواوي كشاف هذا الوجه الأخر، لقد سخر من التجهم والعبوس، حتى أن هذه الرسومات كما لو أنها تراجيكوميدي. وعين الفنان العصامي، كما عين مقربة ومكبرة في الآن، وروحه تمتص وتشف تفاصيل موضوعاته، ففي لوحاته الأولى بالأبيض والأسود، خطوطه حادة وبارزة وأقل تفاصيل، لكن في المرحلة اللونية، بقدر تنوع الألوان وتعقد ما يتناول، ازدادت تفاصيله، مما جعلها وكأنها لوحات ترصد مشهدا اجتماعيا. إبراهيم الكوني الناقد، يُحلل سخرية الفنان الزواوي، باعتبارها متعة تقود إلى المعرفة: "السخرية في فنّ الزواوي ليست مجرّد فلسفة، ولكنّها رسالة.

فهو لا يسخر من نماذجه الدنيويـة لكي ينفّر، أو لكي يكفّر، أو لكي يُدين، ولكن لكي يُنبّه، لكي يُحذّر، لكي يقرع نواقيس الخطر. وهو عندما يفعل لا يفعل من موقف سلطة، سواء أكانت سياسية أو أخلاقية، ولكنّه يفعل من موقف الحُبّ، يفعل كأنّه يشارك إنسانه الليبي سيّئاته، كأنّه يتضامن مع نموذجه في خطاياه الصغيرة.". لكن هناك جانب أخر، عند هذا الفنان، أنه أول فنان ليبي، يعمل كـ (كاريكاتيري) في الصحف والمجلات المحلية، وعمل أيضا كمخرج صحفي. ولقد جعل هذا منه كما متفرغ للرسم من جهة، ومن أخرى كما موظف، يرسم ما تحتاجه صحف الدولة، وفي هذه الحالة هناك رسومات ساخرة سياسية تعبر عن رأي الدولة.

وفي كل الظروف المحيطة به، عمل بإخلاص للفنان الساخر فيه، فتميزت رسومه في كل ما رسم، حتى أن لا مثيل لها، والشحنة السيكلوجية ظاهرة فيها، وتشف عن غضب مكبوت، ليس في الموضوعة وحسب، بل وفيما تحمله الوجوه، من سخرية اتجاه من يشاهدها، ورسوماته ضمتها كتب، تحمل عناوين دالة، كـ (الوجه الأخر)، و (نواقيس)، و (أنتم).