Atwasat

بذرة الشك

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 27 سبتمبر 2020, 11:00 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تعلمنا في صغرنا، مثلما تعلم الذين قبلنا وعلمونا، ومثلما مازال صغارنا يتعلمون، أن اللغة العربية أبلغ لغات أهل الأرض، والتشكك، مجرد التشكك في ذلك، يعد جحودا ونكرانا، بل وعداء وانسلاخا.

لكن الواقع الموضوعي أمر مختلف. فمن غير السليم القول عن لغة ما بأنها أبلغ اللغات، هذا سواء اتفقنا على تعريف البلاغة وخصائصها، وهل هي معطى أو جوهر ثابت، أم ظاهرة متحركة تتبدل ملامحها في المسار التاريخي لتطور لغة ما والثقافة المتعلقة بها. فكل لغة تتميز بميزات تفتقر إليها ما عداها من اللغات. فإذا كانت اللغة العربية تتميز بظاهرة الاشتقاق، وهي ميزة مهمة فعلا*، فإن لغات أخرى تتميز عنها بميزات تفتقدها.

وإعادة النظر في موضوع تفوق اللغة العربية على غيرها طُرق منذ أكثر من ألف سنة، لكن يبدو أنه قمع وعتم عليه.

ففي المقابسة رقم (88) من كتاب** "المقابسات" لأبي حيان التوحيدي، التي عنوانها: "مقابسة في ماهية البلاغة والخطابة وهل هناك بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟" يسأل أبو حيان أبا سليمان [المنطقي] "فهل بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟". ويجيب أبو سليمان "هذا لا يبين لنا إلا بأن نتكلم بجميع اللغات على مهارة وحذق ثم نضع القسطاس على واحدة واحدة منها حتى نأتي على آخرها وأقصاها ثم نحكم حكما بريئا من الهوى والتقليد والعصبية والمين، وهذا ما لا يطمع فيه إلا ذو عاهة؟".
لكن هذه البداية المستنيرة يلجمها ويتراجع عنها صاحبها فورا. كأنه رمى بذرة الشك، وتخلى عن رعايتها مؤثرا سلامته تاركا البذرة لتصاريف الظروف.

إذ يقول بعد هذا مباشرة دون فاصل "ولكن قد سمعنا لغات كثيرة من أهلها، أعني من أفاضلهم وبلغائهم، فعلى ما ظهر لنا وخيل إلينا لم نجد لغة كالعربية". ورغم هذا التراجع يظل أبو سليمان يختلس النظر إلى بذرة الشك التي ألقاها مموها عليها في ثنايا كلامه. فهو لم يصدر عبارات مؤكدة جازمة بشأن تفوق اللغة العربية على سائر اللغات، وإنما ترك لألفاظه بهذا الشأن هامشا من الحركة، حيث قال "... على ما (ظهر لنا) و (خيل إلينا)".

ورغم أن القرن الرابع الهجري أكثر الفترات تفتحا وازدهارا في ما يخص الحرية الفكرية، إلا أن القمع الاجتماعي، قبل الساسي، لم يكن مشلول الفاعلية وغائبا تماما. ففي المقابسة (50) من نفس الكتاب التي عنوانها "في الكهانة وما يلحق بها من أمور الغيب" يقول أبو حيان "سئل أبو سليمان [المنطقي] عن الكهانة وما يلحق بها من أمور الغيب وما يقدر به على أحكام المستقبل، وعن النبوة التي هي في محلها الأعلى ومكانها الأشرف؟ فتصرف في الجواب أحسن تصرف على سعة من اللفظ والمعنى. ولكن لو نقلت كثيرا منه لنسبوه للكفر وقلة العناية".

* التقيت مرة مستعربة بلغارية أشادت أثناء الحديث بهذه الظاهرة مستشهدة بكون لفظتي "الصداقة" و "الصديق" مشتقتين من "الصدق". وانظر عمر أبو القاسم الككلي، فرادة ظاهرة الاشتقاق في اللغة العربية. http://alwasat.ly/news/opinions/238239?author=1
** أبو حيان التوحيدي، المقابسات، شرح وتحقيق حسن السندوبي، آفاق للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016.