Atwasat

ذلك الصباح.. ذلك الأمل

جمعة بوكليب الخميس 24 سبتمبر 2020, 01:22 صباحا
جمعة بوكليب

أُنشئ: الاثنين 21 سبتمبر 2020 15:01
عُدِل: الاثنين 21 سبتمبر 2020 16:46

ما أجملَ الزحام، وما أحلىَ الرجوعَ إليه، قلتُ في نفسي، وأنا أقود سيارتي، ذلك الصباح، في ساعة الذروة المرورية، في طريقي إلى قضاء أشغال إدارية، ظلت معلقة لأسابيع طويلة، بسبب ما فرضته الحكومة من إجراءات وقائية احترازية ضد الوباء الفيروسي، حتّمت تأجيلها.

رغماً عن الشعور بالضيق من ارتداء أقنعة الحماية،، التي تخفي تفاصيل ملامح وجوه الناس، مذكّرةً بضرورة الوقاية من الإصابة، كان صباحاً خريفياً مشمساً، يذكّر المرءَ بما افتقدناه من صباحات، خلال أشهر الإغلاق العام. صباحٌ يجعلنا نشعر وكأن الحياة تعود إلينا بعد غياب طويل، أو بالأحرى كأننا نحن من يعودون بفرح إلى الحياة أخيراً، كأموات بعُثوا أحياء، وخرجوا من عتم قبورهم.

صباحٌ ليس كمثله شيءٌ. شمسٌ مشرقةٌ يغمر دفءُ نورها، بحنان ورقة ونعومة، الدنيا والقلوب. شوارعٌ تزدحم بحركة السيارات والحافلات في طوابير طويلة طويلة. تلاميذُ مدارس، من الجنسين، في طريقهم إلى مدارسهم، وبدء نهار مدرسي جديد. أشجارٌ بأغصان مخضرة، رغماً عن الخريف، تقف شامخة بعلوها، وبهجتها تفيض على جوانب الطرقات. طيورٌ على أشكالها تطيرُ أو تحطُّ على أغضانها، وعلى طراوة عشب الحدائق. موسيقى راقصة تنبعث من بعض السيارات، التي تعبر الطرقات بسرعات بطيئة، من شدة ازدحام الحركة المرورية.

المسافةُ الزمنية لا تتجاوز أشهراً قليلة تفصلنا عن اللحظة التي حطَّ فيها الوباءُ الفيروسي بكلكله على الدنيا، واستفحل منتشراً خلالها، مستغوّلاً في مدننا وقرانا وبلداتنا، سارقاً منها زخم تفاعلها الحيوي، ضارباً بعرض الحائط كل الحواجز، ومنتهكاً كل اللوائح القوانين، وأجبرنا على التخلي على ما تعودنا عليه من روتين حياتي، فهربنا خائفين إلى بيوتنا، وظللنا قابعين بين جدرانها، ومبتهلين إلى الله، الملجأ الأخير، أن يحمينا من شروره. وتركنا للوباء، قسراً، شوارعنا خالية، فارغة من ضجيجها وزخمها، لتعبرها أرتال جيوشه غير المرئية، وتعربد فيها كما تشاء، كما تفعل الجيوش الغازية: كل همها القتل والتدمير. دفء أحاديثنا في لقاءاتنا بالمقاهي والمطاعم والحدائق صارت ذكريات، لا تختلف عن معاطف قديمة معلقة على مشاجب أعتلاها غبار النسيان. وجولاتنا التسكعية اليومية في الشوارع والأسواق، التي كنا نعدّها مضجرة، أضحت أماني وأشواقاً وأحلاماً. ومع كل ذلك، عَلمَنَا الوباءُ المقيتُ درساً مفيداً، إن لم يكن ضرورياً لنا جميعاً. درسٌ مثل دقات جرس نحاسي أيقظنا من سبات طويل، لنفيق بعيون مفتوحة، وننفض عن أرواحنا وعقولنا غبارما أعتلاها من غبار، وما أصابها من دوار واضطراب، وما حلَّ بها، طوال سنين، من كسل وخمول. ولنكتشف ما ألم بنا، على مرّ الأعوام، من امتثال مقيت، جعلنا نطرح من حساباتنا مكر الطبيعة. ولنستيعد ارتباطنا بزخارف ومباهج دنيا تبيّن أننا لسنا على عجل لمفارقتها، ولنتوقف عن التأفف، والإحساس بالضجر والملل ، ولنعيد اكتشاف حقيقة أنفسنا، نحن الذين توهّمنا أننا صرنا في منجاة من الأوبئة، وفي مأمن من آفاتها ومصائبها، ولنعود لممارسة ما كنّا نفعله من توافه الأشياء الحياتية اليومية، التي افتقدناها.

ذلك الصباح، وأنا أخوض بسيارتي في نهر الطريق، ذكّرني ما أحدثه بنا الوباء بما كانت تحدثه الفيضانات بتلك البلدة البوسنية البعيدة على الحدود مع صربيا، الواقعة على نهر درينا وجسره التاريخي العظيم، في رواية الكاتب البوسني - الكرواتي الرائع ايفو اندريتش «جسر على نهر درينا» (1945) وتحديداً دقة وصفه للمآسي التي تصيب سكان البلدة من الفيضانات، وما تسببه من كوارث لهم وخسائر في الأرواح والممتلكات. ويصف صبر سكانها، من مسلمين ومسيحين ويهود وغجر ، وقدرتهم في التغلب على أحزانهم، وما تسببه لهم الفيضانات من مآس، وحماسهم لاستعادة بلدتهم ومنازلهم ومزارعهم من الدمار، وإعادة إعمارها، فيكتب واصفا إياهم بعد انزياح كارثة فيضانية: «لذلك، على الجسر، بين السماء والنهر والتلال، تعلم جيل بعد جيل ألا يحزنوا كثيراً على ما تحمله معها مياه الفيضانات (من أرواح وممتلكات)، لأنهم أدخلوا في لا وعي فلسفة البلدة أن الحياة أعجوبة لا تُستوعب، كونها تهدرُ وتضيّع، لكنها مع ذلك تتحملُ، وتواصل الاستمرار كالجسر على نهر درينا».

ذلك الزحام، ذلك الزخم البشري البهيج، ذلك الدفء الخريفي الذي يتسلل إلى الروح قبل خلايا البدن، ذلك الفرح بعودتنا إلى الحياة، ذكرني، ذلك الصباح، بسكان تلك البلدة البعيدة، في صراعهم مع الطبيعة، وجعلني عازماً ومصمماً على الحياة، وعلى التمتع بما تلقيه الدنيا في طريقي من مباهج صغيرة وبسيطة بامتنان، وعدم ابداء أي تبرم أو ضيق مستقبلاً، بأي زحام من أي نوع، في أي شارع من الشوارع أو الطرقات، في أي مدينة من مدن الدنيا، في أي بلد أو أي بقعة على خريطة عالمنا الصغير.

ذلك الصباح.
ذلك الأمل.