Atwasat

النيهوم.. ورسالة مجهولة

سالم الكبتي الأربعاء 23 سبتمبر 2020, 12:10 مساء
سالم الكبتي

بدأت النكبة العربية، كما يتردد في التاريخ المعاصر، بضياع فلسطين في مايو 1948. حاربت الجيوش وهزمت. وظل المواطن العربي يحلم بالتحرير والعودة. نزح اللاجئون من ديارهم وتفرقوا. ضاعت حقوقهم وواصل العالم حديثه في الأمم المتحدة عن السلام.. ولكن ليس عن العدالة!

قبل ذلك بعام في 1947 رفض العرب تقسيم فلسطين. ثم فاوضوا إسرائيل في رودس عام 1949. واستمرت الأعوام وظل الحديث عن التحرير وهزيمة إسرائيل والحلم بالعودة إلى الديار حديثا يوميا وحكايات سمر وأغانيَ وأناشيدَ. ولم يستفد العرب من دروس النكبة كما أطلقوا عليها.

راجعون وعلم العروبة لبيك كانتا لازمة في الإذاعات تتكرر في الصباح والمساء وتتردد في السهول والأودية وباسم فلسطين ارتكبت الكثير من الفضائح والفظائع على طول المنطقة. وظلت فلسطين سمة بارزة وعنوانا لا يتغير لدى كل شاويش يعتل باب الإذاعة. صارت مثل حمار الشعراء. بحر الرجز.

كلهم وزنوا عليه. كلهم مفاعيلهم ومفعولاتهم لم تخرج عن سياقه. فلسطين في البال ظلت في خاطر الإنسان البسيط الجائع والمقهور من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر. توالت الأعوام ولم يتحقق النصر وكان الوقت كله في صالح إسرائيل وانتصرت الجيوش العربية داخل عواصمها ولكن في الغالب ليس على الجبهات. وهزم الإنسان العربي ونالته المذلة والهوان. وبخبطة واحدة في حزيران 1967 احتلت أراضي ثلاث دول عربية وهزمت جيوش بصواريخها وطائراتها وأسر أفرادها وضحك العالم يومها بلا انقطاع.

كانت إسرائيل تتصرف بوعي وبضراوة وبحقد وتعرف كيف تمد خطواتها وكيف تحقق أحلامها وكيف تقنع العالم بأكاذيبها وأساطيرها وعجز العرب دبلوماسيا وسياسيا في الأمم المتحدة وفي مؤتمراتهم وفي خطبهم عن توضيح أفكارهم ورؤاهم وصارت المتناقضات والحروب العربية مدعاة للسخرية أيضا عند الجميع محليا وإقليميا وعالميا.

تقدمت إسرائيل وتخلف العرب ونجحوا في حروبهم واقتتالهم مع بعضهم وتفوقوا في إهانة المواطن وفتح المعتقلات والسجون وسد منافذ الحرية التي هي أولى الخطوات لتحرير الأرض بعد تحرير الإنسان واستمرت المتاجرة بفلسطين على كل الأصعدة ولم تتوقف وأصيب سكان هذه المنطقة بالإحباط على الدوام.

ثم حاول العرب أن يطرقوا أبواب السلام. لكن من ثغرات مختلفة. لم يكن ثمة رؤية واحدة تجاه السلام. كيف. لماذا. متى يتحقق. وأخيرا طالبوا بالدولتين وبحدود 1967. راحت الحدود القديمة والشروط القديمة وتغيرت اللعبة القديمة. ماتت الأغاني والأناشيد. ولكن ظل العرب يقودهم ساستهم إلى فخاخ ومصائد مجهولة. وتوسعت شقة الاختلاف. ومات الضمير أيضا!

حين زار بورقيبة أريحا عام 1965 وصرح بأقواله الشهيرة بضرورة أن يرضى العرب بالتقسيم. حوصر وأتهم بالخيانة وبصقوا عليه في بيروت ولعنه صوت العرب بلا توقف. كان قد مر بالقاهرة واجتمع بعبدالناصر وتداولا الفكرة معا وربما كان هناك ضوء أخضر من عبدالناصر بالتحدث بما قاله بورقيبة. أخبره بأنه لايستطيع نقل ذلك إلى الجماهير التي ستحكم عليه بالجنون. وكان بورقيبة شجاعا رغم كل شي. رغم البصاق واللعنات وصوت العرب. وفي 1969 خرجت من فم محمود رياض وزير الخارجية في مصر تصريحات متناقضة عن الحل السلمي في مؤتمراته الصحفية الخارجية. كانت مصر تقول شيئا آخر وتصر على أن ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة.

الصادق النيهوم في ذلك الصيف وعقب هذه المؤتمرات التي حضر بعضها في هلسكني وجه رسالة إلى عبدالناصر عبر صحيفة الحقيقة من بنغازي أكد فيها على أن مايقوم به رياض خطأ سياسي يضعنا في موقف متناقض عند ثلاث نقاط محددة: أولها أنه يجعلنا نقبل بالحل العادل لقضية اللاجئين الذي رفضه اللاجئون أنفسهم. وثانيها أنه يضع عشرين عاما من الحرب ضد إسرائيل على الرف مقابل لا شيء. وثالثها أنه يجعل إعادة تسليح الجيش المصري مجرد لعبة باهظة التكاليف تتم عبثا. وأشار النيهوم.. إلى أننا لم نتورط في الحرب مع إسرائيل من أجل أراضينا المحتلة، بل من أجل أرض فلسطين التي اغتصبها نظام نازي يدعو نفسه دولة يهودية. نحن لابد أن نرفض إسرائيل كلية أو نعترف بها كلية. وأشار النيهوم أيضا إلى مزيد من التناقض والارتباك في مواقف الضابط سابقا محمود رياض والأمين العام لاحقا للجامعة العربية عندما عاد إلى القاهرة وأكد على أنه لابد أن ينال مطلق الحرية لكي يقول ما يشاء.. (بس أنتوا سيبوني أتكلم ومالكوش دعوة) موجها كلامه للصحافة العربية التي هاجمت مواقفه المضحكه.
دروب معوجة ومستقيمة. وصعوبات ومشاكل اخترقتها القضية الفلسطينية ثم ضاعت في المجهول ولاتزال في غياب الموقف الرشيد الواحد.. ماذا يريد العرب من أنفسهم أولا ثم من إسرائيل.

مبادرة روجرز التي قبلها عبدالناصر عام 1970 وشتمتها الإذاعات الفلسطينية. العام الحاسم سلما أو حربا عام 1971 على رأي السادات. مشروع المملكة المتحدة الأردن وفلسطين.. والآلاف من المشروعات والحلول والأوراق والصحف والخطابات التي لم تقتل ذبابة. وسط هذه الأجواء كان النيهوم يكتب كثيرا عن أحزان اللاجئين ومأساتهم ومأساة السياسة العربية المزمنة والمضحكة. والكثيرون على امتداد المنطقة كتبوا وأصدروا العديد من التصورات. وظهرت مبادرات للسلام من القادة العرب. فاس. مشروع الملك فهد. مشروع الملك عبدالله. إضافة إلى التطبيع واتفاقيات السلام والاعتراف بإسرائيل في النهاية. (لابد أن يندلع السلام) هكذا قال النيهوم في إحدى مقالاته.

في يونيو 1971 أعلن في ليبيا عن قيام الاتحاد الاشتراكي العربي تأسيا بتجربة عبدالناصر. وفي يوليو اختير النيهوم ضمن أعضاء اللجان التأسيسية لهذا الاتحاد. حضر إلى بنغازي وطرابلس. شارك في الأولى في ندوة هدفها التعريف بالاتحاد. في نادي الهلال. وكنت أتولى تقديمها نيابة عن اللجنة الثقافية بالنادي الذي استضاف الندوة. أشار النيهوم إلى ألَّا نحاكي تجربة أحد. لدينا تراثنا ولدينا تاريخ. علينا أن نهتم بالإنسان وحريته وكرامته ونمنح الفرص للجميع ونبعد عن زوار الفجر وطرق البيوت آخر الليل. وكلام كثير لم يرق لمن حضر وشارك معه من مسؤولي الاتحاد. بعد عودته إلى هلسنكي في أغسطس أرسل إلى أحد أصدقائه وكان سفيرا لليبيا في إحدى دول أوروبا برسالة نادرة لم يكشف عنها اللثام إلا الآن جاء فيها:

(أنا أنوي أن أعتذر لك عن كل إزعاج تسببت فيه لكم خلال تدبير عودتي إلى ليبيا لقد كنت مترددا كثيرا وكان هذا التردد مبعث ضيقي من الرحلة بأسرها لكني أحس الأن أنه أمر لم يكن في محله. إن العودة لم تكن مؤلمة على أي حال. حضرت اجتماعات اللجنة المركزية في بنغازي. حضرت اجتماع الأخ جلود بأعضاء هذه اللجان في طرابلس. حرصت على أن أسمع نقاش الناس لقضايا الاتحاد الاشتراكي. أتيحت لي الفرصة لكي أشهد ندوتين عامتين.

قلت رأيي وسمعت آراء الآخرين وأحس بالرضا تجاه ضميري. قابلت أيضا العقيد القذافي في بيته. شرحت له وجهة نظري بالتفصيل في قضية الصحافة والإعلام. تحدثت معه عن كل مشكلة خطرت ببالي. ناقشت أمامه وجهة نظري بشأن الاتحاد الاشتراكي والإعلام ووعدته بأن أكتب النقاش على الورق وقد كتبته في الأسبوع الماضي وبعثته للنشر) كان هذا المقال بعنوان الصحفي والدلال.

ثم يفجر النيهوم لغما مايزال مجهولا في ثنايا الرسالة. إنه يقول (قضية واحدة لم أختر أن أتعرض لها مع العقيد القذافي ولا أستطيع أيضا أن أتعرض لنقاشها على الصحف وهي قضية تخص حكاية المفاوضات مع إسرائيل. إنني أتمنى أن تتاح لي الفرصة ذات مرة لكي أعرض أمامك وجهة نظري تجاه هذه المشكلة في رسالة طويلة. أعني إذا كنت تعتقد أن ذلك لن يتسبب في مضايقتك بطريقة ما)

والرسالة لم تنته عند هذا الحد. تناولت أمورا أخرى بعيدة عن الموضوع. كان ذلك في صيف ذلك العام 1971 منذ مايقارب خمسين عاما. فما الذي كان النيهوم يريد قوله؟ ماهو الدافع الذي جعله يطرق هذا الموضوع الشائك حينها بخفوت وعلى استحياء؟ هل تناوله مع مسؤولين ليبين كبار في أوقات أخرى؟ هل كانوا قد طلبوا منه جس النبض داخليا وخارجيا؟
.. هل ثمة حقائق سيقف عليها الليبيون ذات يوم؟!!