Atwasat

وباءٌ أسوأ من كوفيد؟

جمعة بوكليب الخميس 17 سبتمبر 2020, 08:27 صباحا
جمعة بوكليب

كُتّابُ الزوايا اليومية والتعليقات، في الصفحات الداخلية، بالصحف البريطانية احتفوا جداً، مؤخراً، وعلى طريقتهم، بخطبة سماحة بابا الفاتيكان فرانسيس، التي حذّر فيها أتباعه من المسيحيين -الذين جاءوا من مختلف بقاع الأرض لسماع حكمته- من مغبة خطر النميمة، ووصفها بأنها «وباءٌ أسوأ من كوفيد»، والحقيقة، أنني تابعت قراءة التعليقات المشوّكة، والتي لا تخلو من ظرف باهتمام، لأن أغلبية من كتبوها من المعلقين يعدّون رفاق طريق ملازمين للنميمة، بل ولا يمكن الفصل بينهم. ولولا كتاباتهم الموشاة بالنميمة، لما تجشّم القرّاء عناء قراءة ومتابعة ما ينشرون من تعليقات وحكايات. وهم لذلك السبب، استشاطوا غيظاً، وأذاقوا البابا الكيل أضعافاً مضاعفة.

وأنا واثق أن سماحته لو اطلع على ما كُتب ونشر من تعليقات حوله، لما عرفت روحه سبيلاً إلى راحة أخيرة متمنية. خاصة، وأن معظمهم، من باب الشماتة، كتبوا مؤكدين أن مبنى الفاتيكان، تحديداً، يُعدُّ، تاريخياً، الحصن الحصين للنميمة، ومصدراً لأكبر نمامي العالم.

سماحة البابا قال حرفياً (THE GOSSIP IS A PLAGUE WORSE THAN COVID ). قاموس المورد، طبعة عام 1989، يفسر الكلمة الإنجليزية (GOSSIP) بعدة معان، وليس منها إلا اثنان، في نظري، ينطبقان على ما تعنيه الكلمة في الأوقات الحالية من معنى. وهما القيل والقال، ونشر الإشاعات. وأعتقد أن مفردة (قُرْمَه) في اللهجة المحلية الليبية أكثر ما ينطبق عليها. لكني أفضل ترجمتها بالنميمة، لأنها، حسب رأيي، تليق بوصف الحالة، التي يتحدث فيها شخص إلى آخر، بأمور تتعلق بشخص ثالث، ومن وراء ظهره. والنميمة أنواع، وأكثرها إمتاعاً لي النميمة السياسية. وهذا لا يعني أن الأنواع الأخرى من النميمة غير ممتعة، أو غير مثيرة، أو مفتقدة للقدرة على تسريع نبضات القلب من شدة الإثارة والتشويق.

والنميمة لا يكاد يخلو منها مجتمع بشري، منذ أن أغوت أمنا حواء أبانا آدم المسكين بأكل التفاحة، فاستحقا الطرد من الجنة، واستعمرا الأرض.

وبدأت، منذ ذلك الوقت البعيد، المسيرة البشرية على اليابسة، عبر مراحلها المتعددة. لكن التغيّر الإنساني، والتطور الحضاري، لم يتمكنا من القضاء على النميمة، بل زاداها تشويقاً وبهارات، حتى صار لا يمكن الاستغناء عنها في أي تجمع بشري، وحتى صارت بمثابة الغراء الذي يجعل أفراده ملتصقين ببعض، رغبة في سماع آخر ما استجد من تعليقات، ذات صلة بحيوات أفراد آخرين. ولا أعرف الأسباب التي دعت البابا فرانسيس، في حصنه العتيد بالعاصمة الإيطالية، إلى أن يقرر الخوض في مياه تاريخية أبحرت فيها مراكب البشرية بمختلف ألوان راياتها ولا تزال. لكنّه، بقصد أو دونه، فتح على نفسه أبواب جهنم، وكما يقول المثل «على نفسها جنت براقش». وفي الحقيقة، أنا لا أود أن أفعل مثله، وأفتح على نفسي أبواب جهنم، لكني لا أستطيع منع نفسي من الإشارة إلى حقيقة أن نسبة النساء أكثر من نسبة الرجال، حين يتعلق الأمر بما حدث لفلان أو لفلانة. ويرجع المختصون السبب إلى أن النساء يفتقدن القوة بمعناها التقليدي، وبالتالي يسعين إلى تعويضها بالقيل والقال، أو بالنميمة. والأمر نفسه ينطبق على المثليين.

وما يثير الاستغراب، استناداً لكاتبة اسمها هيلين رمبيلو، أن قداسة البابا فرانسيس نسي أن وباء كوفيد قد أحال سنة 2020 إلى سنة جدباء من النميمة، والقيل والقال. فالمؤسسات والمصانع والمكاتب تعرضت للإقفال، ومثلها المقاهي والمسابح والنوادي، وهي جميعها ملتقيات لمختلف الأنشطة الإنسانية ومرتع خصب جداً للنميمة، أو القيل والقال. لكن التقدم التقني قدّم وسائل كثيرة للتواصل، بمثابة تعويض مؤقت، لتبادل القيل والقال. ومن الجدير بالملاحظة أن المجتمعات المتقدمة تقتات مثل نظيراتها المتخلفة على النميمة، والقيل والقال. بل إنها تسخّر لها الإمكانيات الإعلامية من صحف وبرامج إذاعية وتلفزية. الكاتب والروائي الأميركي «ترومان كابوتي» يقول إن: «كل الأدب نميمة.

ماذا بحق الله تكون رواية آنا كاريننا، أو رواية الحرب والسلام، أو رواية مدام بوفاري إن لم تكن نميمة؟». هذا القول حثني على مزيد من البحث في الإنترنت عما قاله غيره من الكتاب والأدباء وغيرهم من الشخصيات المعروفة عن النميمة، فاكتشفت عشرات الصفحات من الأقوال المأثورة، مما لا يتسع له المجال في هذه السطور، لكني ارتأيت اختيار ما راقني منها ومشاركتها مع القراء.

الممثل والمغني البريطاني «روبرت ايفريث» في مذاكرته يقول: «النميمة هي الغراء الذي يحافظ على تماسك الصحبة». الكاتبة البريطانية المشهورة «جين اوستن» رغم إصرارها على إدانة النميمة من خلال بطلات رواياتها، إلا أنها في مراسلاتها الخاصة مع شقيقتها، التي كشف عنها الغطاء في وقت متأخر، تحب النميمة كما تبيّن مما تبقى، وعثر عليه، من تلك الرسائل، بعد قيام شقيقتها بحرق معظمها. وأن الراحلة الأميرة «دايانا»، ضبطت متلبسة، عديد المرات، في مواقف نميمية مع خدمها، وخاصة مع الطباخين. وأن الكاتب المسرحي والروائي البريطاني «أوسكار وايلد» كتب على لسان إحدى شخصياته في مسرحية مشهورة له: «النميمة ساحرة. والتاريخ ليس إلا مجرد نميمة. لكن الفضيحة تجعل النميمة مضجرة بفعل الأخلاق».

أتمنى للجميع قضاء جلسات نميمة مشوقة وممتعة.

ـــــــــ
مقالات للكاتب:
-  التوهج والخفوت
-  معركة الكهول الأخيرة
-  قطار سلامه وقطار سلامنا