Atwasat

التوهج والخفوت

جمعة بوكليب الخميس 10 سبتمبر 2020, 03:08 صباحا
جمعة بوكليب

الاهتمام بالشأن العام، على المستويين المحلي والدولي، والحرص والمثابرة على متابعة تطوراته أولاً بأول، لا يأتي للمرء، فجأة، محمولاً على لفحة ريح عابرة. بل هو، في رأيي، يبدأ كفِسلة صغيرة تُستزرع في تربة بداية سنوات الشباب الأولى، وبالمثابرة والرعاية، تكبر حتى تصير شجرة عظيمة مثمرة وبظلال وارفة. والمهتمون بمتابعة الشأن العام، مهما اختلفوا، يتميزون بمرور الأعوام باكتساب حاسة سادسة، تجعلهم أقدر من غيرهم على متابعة الأحداث السياسية، وقراءة ما يظلُّ مخفيّاً، متأرجحاً بين فراغ السطور، أو مغلفاً بالغموض في ثنايا التصريحات، فيما يذاع وينشر من أخبار وتعليقات وتقارير.

وأذكر أننّي خلال السنوات الأولى من وجودي في بريطانيا، بسبب طبيعة دراستي الأكاديمية، واهتماماتي الشخصية، شغفتُ بما كان يقدّم على الخشبة البريطانية من عروض سياسية متميّزة، تجري مؤطرة بتقاليد وأعراف ديمقراطية عريقة، لم أتعودها، أثارت فضولي المعرفي، وشدّت انتباهي إليها حتى أحسستني وكأني ربطتُ إليها بسلاسل من حديد، فصرتُ، منذ أن أفتح عينيَّ صباحاً إلى أن أتوسد تعب نهاري ليلاً، وأنا أدور في مدارها، مستمعاً وقارئاً ومشاهداً، متنقّلاً بين ما كان يقدم من برامج إذاعية في «راديو فور»، إلى قراءة ما تنشره الصحف باختلافها من أخبار وتعليقات وافتتاحيات، وما يقدم في نشرات المساء من مقابلات ولقاءات على القنوات التلفزية.

كانت تلك أياما مجيدة حقاً، جعلتني قادراً على الولوج إلى عالم شديد التعقيد، ولا تنقصه الإثارة.

ذلك الاهتمام والشغف، للأسف الشديد، فقدا زخمهما، وتبدد بريقهما متلاشياً، في السنوات الأخيرة. الأمر لم يحدث فجأة، بل تدريجياً، وعلى مراحل. البداية كانت حين اكتشفت أننّي لم أعدّ حريصاً على تشغيل جهاز المذياع، منذ استيقاظي، ومتابعة البرامج السياسية الصباحية. بعدها بوقت ليس طويلاً، انتقلت العدوى إلى تجاهل متابعة النشرة الرئيسة المسائية في القناة الثانية بي بي سي. لكنّي -لا أعرف كيف، أو لماذا- ظللت حريصاً على اقتناء وقراءة الصحف، يومياً، ومتابعة ما يكتبه وينشره كتّابي المفضلون من تعليقات، وكأني اكتفيت ورضيتُ بذلك.

وفي ظنّي أن ما حدث لي، وما انتابني من عزوف، ليس مبعثه تعب بدني، ناجم عن تقدمي في صعود درجات سلم زمن كثير التعرّجات، وليس له نهاية، وما يسببه ذلك، بمرور الوقت، من تفاقم وعلو في نسبة السأم والضجر في النفس، وما يحدثه، بالطبيعة، في جدار الروح من تصدعات، سرعان ما تتمدد منتشرة حتى تطال ما كان، يوماً ما، مصدراً لتألق الذات وحيويتها.

بل يمكن، في وجهة نظري، إرجاعه إلى ضفيرة من عوامل عدّة، تلاقت مجتمعة، وفي وقت واحد، وساهمت في إخماد حرارة اهتمامي، أو على الأقل عملت على التقليل من درجة توهجها، وزخمها. وفي الحقيقة، فإن الاعتقاد بتأثير، ما يحدثه الزمن من تغيرات وتبدلات في الفرد، ليس فقط على مستوى الجسد، بل يطال الاهتمامات بوجه عام، يحظى بمعقولية، ولا يمكن استبعاده كلياً.

إلا أنه، على وجاهته، لا يصمد كثيراً لوحده، لو وضع تحت المجهر. لذلك، فإن الاعتقاد الأرجح، وربما الأقرب إلى الصواب، وراء ما أصابني من عزوف، يستند إلى حقيقة أن ما أصبح يقدم من عروض على الخشبة السياسية البريطانية، لم يعدّ، بالنسبة لي، مثيراً كالسابق. وأن الممثلين الذين صاروا يحتلون تلك الخشبة، في رأيي، ليسوا بمواهب وقدرات من سبقوهم. وأن بواعثهم وحوافزهم التي دفعت بهم إلى خوض العمل السياسي، لا تتجاوز الحرص على التمتع بما يوفره من أضواء، وما يقدّمه من مزايا مالية، واجتماعية.. إلخ.

وتأكّد لي ذلك، مؤخراً، حين اكتشفت من خلال ما اطلعت عليه من تقارير منشورة في الصحف، تتعلق بتبرّم أسماء بارزة، ومعروفة، من إعلاميين من الجنسين، من المنخرطين في تحرير وإدارة البرامج السياسية بالإذاعات والقنوات التلفزية، من أداء وظيفتهم، بسبب ما صاروا يلاقونه ويواجهونه من سأم وضجر، يعتريهم لدى إجرائهم مقابلات مع سياسيين، وصفوهم بأنهم حريصون على تكرار واجترار «كليشيهات» ممضوغة، وكلمات لدى تمحيصها لا تفصح إلاَّ عن فراغ في المحتوى، خلال ردودهم على ما يوجّه إليهم من أسئلة تتعلق بسياسات، وأحداث، تعدّ مهمة للمواطن، لكونها مثيرة للجدل، وفي حاجة إلى نقاش يزيح عنها ما علق بها من غموض والتباسات.

أغلبهم يرجع ذلك إلى تغيّر، حدث في السنوات الأخيرة، في طبيعة العملية السياسية، يعود إلى تشدد، غير مسبوق، في قبضة القيادات الحزبية على مسار الأحداث، بشكل أدى إلى تقولب المسؤولين والوزراء داخل قالب مقيّد، يسلب منهم هامش المناورة، ويخمد حيويتهم، ويضعف من قدراتهم على خوض غمار نقاشات ومقابلات بعمق وتفاصيل، تثير في مديري اللقاء وزملائهم الشهيّة في تأجيج نار الحوار، والخوض في تفاصيل تثري القضية موضوع الحديث، وتشدّ إليهم المستمعين أو المشاهدين.