Atwasat

ليبيا 1970 (5_5)

سالم الكبتي الأربعاء 09 سبتمبر 2020, 11:51 صباحا
سالم الكبتي

إبريل ذلك العام بدأت الاستعدادت لعقد ندوة الفكر الثوري. ثم بدأت مساء الأربعاء السادس من مايو 1970 في مسرح الكشاف بطرابلس. القاعة امتلأت بالمشاركين الذين تمت دعوتهم: مثقفون ورجال دين وكتاب وصحفيون وأساتذة ونسوة وضباط في الجيش. هناك كثيرون لم يحضروا الندوة ولم تتم دعوتهم في مقدمتهم طلبة الجامعة. أحسوا أو رأوا في الندوة وموضوعاتها فخا جاهزا للانقضاض في مرحلة مقبلة وشروع في التصنيفات وطريق جاهز على ما يقال خلالها إلى المعتقلات. رأوا أيضا أن فيها محاكاة للتجربة المصرية عبر نقاشات هيئة التحرير والاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي. إعادة وتكرار للصورة القديمة نفسها. لم تكن تجربة جديدة أو طارئة. إنها معلومة من الثورات بالضرورة .

اختلفت المفاهيم ولكن انعقدت الندوة. مسرح الكشاف كان أول نشاط يشهده بهذا الشكل بعد اكتمال إنشائه تلك الأيام. دامت الندوة أكثر من أسبوع . والافتتاح نقل على الأثير وقام بالتغطية ناصر عبدالسميع والإخراج المرئي حسن التركي وزملاؤه. تابع المواطنون وقائع الندوة وكانت ثمة تعليقات كثيرة واجتهادات بين الناس. والبداية كانت صداما في تلك الجلسة الأولى التي شهدت المواجهة الشهيرة والحادة من طرف عمر المحيشي مع الصادق النيهوم، الذي اتهم بأنه مثقف رجعي. لم يكمل النيهوم بقية أيام الندوة. كان ذلك أول حضور له إلى ليبيا بعد التغيير. عاد إلى بنغازي. بقي عدة أيام. عقد خلالها ندوة مطولة أخرى في صالة صحيفة الحقيقة مع كتابها شرح وحلل روايته (من مكة إلى هنا).كان قد شرع في نشرها على حلقات في الصحيفة اعتبارا من فبراير ثم صدرت في كتاب صيف ذلك العام عن دار الحقيقة. نقاش موسع حول رموزها وموضوعها واهتماما بالندوة قام رشاد الهوني بتسجيلها وتوثيقها. دامت أكثر من ساعتين.

ظل الحوار في ندوة الفكر الثوري بين القادمين الجدد أعضاء القيادة ومختلف من حضر لكي يشارك برأيه في موضوعات الوحدة العربية وقوى الشعب العامل والديمقراطية والثورة الاجتماعية. والظروف اختلفت فيما بعد. ركنت البلاد إلى تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي. وحدات أساسية. ثم الكتاب الأخضر والمؤتمرات الشعبية!!

وفي إحدى الجلسات لتلك الندوة انقطع التيار الكهربائي لمدة قاربت ربع الساعة. وظل الجميع في أماكنهم دون حراك أو كلام أو تعليق وعندما عاد التيار إلى القاعة فوجئ الجميع بأن الملازم أول مصطفى أحمد من طاقم الحرس الجمهوري وكان يقف خلف الأعضاء يحتوي العقيد في حماية له طيلة فترة الانقطاع المذكورة. كان الملازم مصطفى شقيق المقدم موسى أحمد المعتقل منذ أربعة أشهر في القضية رقم 1. 1969.! وتصادف تلك الأيام زيارة الرئيس الموريتاني مختار ولد داده لطرابلس فحضر ووفده جانبا من أعمال الندوة. ثم سافر العقيد في جولة عربية موسعة داعيا إلى قومية المعركة ولاعنا الرجعية العربية أينما وجدت ولم يحضر بقية الجلسات.

بعد انفضاض الندوة وضع إبراهيم الكوني كتابا عنها بعنوان نقد ندوة الفكر الثوري. وفي نقده أشار حول نقاش المحيشي مع النيهوم إلى أن: (المحيشي حمل المسألة أكثر مما تحتمل عندما أشار إلى الملك السابق كنموذج للفرد عدو الثورة وصاحب المصلحة فيها فهذا النموذج بالذات هو الذي يعنيه الصادق بالسلطان وليس من الحقيقة أن نعتبر أن ذلك حدث بسبب محتوى ملك وسلطان. فالسلطان الذي يعنيه النيهوم هو رمز عميق لذلك الجلاد الذي يسخر المجموع بهدف العمل في سبيل الفرد). وظل الكتاب من الأصدارات النادرة ولم يطبع ثانية!

يوم الخميس 7 مايو 1970 أفردت صحيفة الرقيب الصادرة في بنغازي تغطية للندوة وأشارت بعنوان عريض مثل المانشيت (منذ البداية طغت الرمزية على الندوة فأفسدتها). كان ثمة معارك ومواجهات صحفية بين الرقيب والحقيقة وكان النيهوم في بعضها جزءا من موضوعات المعركة الصحفية تلك الأيام .

وبدوره قيم ضابط المخابرات فتحي الديب في كتابه (عبدالناصر وثورة ليبيا) الندوة قائلا: (بأنها انعكست في اهتمام الجماهير بكافة فئاتها. كما نجحت في تغطية القصور الواضح في أجهزة الإعلام. وأشار بأن تعليقات الجماهير الليبية تركزت في وضوح الفارق الكبير في المستوى العلمي والفكري وفن القيادة بين العقيد وباقي أعضاء مجلس الثورة وأن التوفيق جانب عمر المحيشي الذي كانت كل الأنظار متجهة إليه على ضوء مارددته العناصر الحزبية عنه بأنه مفكر الثورة الاشتراكي اليساري وأنه هاجم المتحدثين وتعرض لأشخاصهم بأسلوب استفزازي بعد فشله في التعبير عن رأيه حينما حاول الدخول في مناقشة عقائدية لم يستطع عرضها بأسلوب واقعي ومنطقي).

كانت تقييمات الديب عن الندوة وكل الأوضاع في ليبيا تلك الأيام تذهب على الدوام في صيغ تقارير أمنية متوالية عن كل كبيرة وصغيرة إلى عبدالناصر مباشرة. كان الديب عينا لعبد الناصر داخل ليبيا والمجلس. الهاجس الأمني ظل يطغى على تقاريره دون سواه.. ثم صدرت تلك التقارير في كتاب بمزيد من البطولات والادعاءات عام 1986 ولم يناقشه بشجاعة عما ورد فيه حتى من داخل النظام نفسه أحد سوى رشاد الهوني في غربته في لندن عبر مجلة التضامن!

والندوة كانت فرصة للاستكشاف والتعرف والتصنيف في كل الأحوال رغم ماسادها من نقاش وحوارات. أبوبكر يونس في إحدى مداخلاته بالندوة أشار في رأيه عن التسامح إلى أن مقولة الرسول (اذهبوا فأنتم الطلقاء) مثالية جدا لاتتفق والقرن العشرين!
أما الشاعر محمد الشلطامي فقد نشر قصيدته (رباط العنق) بعد الندوة بخمسة أشهر أبدى فيها من بعيد تضامنه دون أن يفصح مع النيهوم الذي سبقه في نشر مقالة بالعنوان نفسه في يوليو 1970 عن تجربته في تلك الندوة وخيبة أمله مما حدث.

والأيام تمضي. وبعد الحوارات مواجهات أخرى وفي نفس الأيام تشق الطرق نحو المعتقلات بلا هوادة. فقد اعتقل عبدالمولى دغمان الذي كان رئيسا للجامعة الليبية ورفيقه أحمد بورحيل بتهمة كتابة المنشور الشهير ضد ماحدث من تغيير وفيه أشارا بالآتي.. (صحونا ذلك اليوم الموافق 1 . 9. 1969. على صوت الأعيرة النارية وهدير الدبابات تجوب شوارع المدينة فعلمنا بذلك أن جيشنا الباسل قد انضم إلى بقية جيوشنا العربية الباسلة التي عودتنا أن لا تنتصر إلا في عواصمها!) وصل المنشور إلى الكثيرين وطرق أسماع السلطة عن طريق الصدفة. وكان الاتهام قد شمل الكثيرين في الموضوع نفسه. بعضهم حوكم وعقب وبعضهم أطلق سراحه. رفض من البداية لما حدث وتحذير من القادم. ثم توالت القضايا.. قضية فزان وقضية محاولة الأبيار وجعلتا مع قضية المنشور قضية واحدة وطال الاتهام أكثر من مائة شخص من مختلف مناطق ليبيا. في قضية فزان كان صالح الغزال أحد المتهمين الرئيسين وقد أعد البلاغ الأول بخط يده وجاء فيه مخاطبا المواطن الليبي: (لقد قمنا من أجل إلغاء الاشتراكية التي تحد من طموحك ومن أجل منحك الحرية الكاملة.. لذلك فقد قمنا من أجلك ومن أجل ولدك لذلك نرجو منحنا تأييدك الكامل ومساندتك المطلقة وعلى أعضاء مجلس قيادة الثورة تسليم أنفسهم بدون مقاومة). ثم عملية الهلتون التي خطط لها عمر الشلحي وأبلغت عنها أمريكا وإيطاليا السلطات في ليبيا فانتهت في مهدها. كانت عملية لاقت دعما ومساندة سرية من دول مجاورة وبعيدة!

وتعددت المحاكمات والقضايا. وانتشرت قصص التعذيب وراء الأسوار وموت الكثيرين تحت التحقيق. وتكتمت السلطات على ذلك لكنها شكلت لجنة برئاسة الرائد عبدالمنعم الهوني للتحقيق فيما وقع من تصرفات وأضرار. طريق إلى الرفض والمعتقلات بعد الوعود بالحرية. طال زمن المعتقلات مدى طويلا حتى أصبح الصبح كما يقال في مارس 1988. وفي ذلك العام 1970 هجمت الكوليرا على البلاد لأول مرة وتم التصدي بالتطعيمات. وألغيت الجامعة الإسلامية. وتوفي عبدالناصر وترك تلميذه الذي ذكره بشبابه أمينا على القومية. واستمر نفس الخطاب. ونفس المعارك. وتكرار التجربة. وأحيانا كان التلميذ الأمين يوجه اهتمامه إلى الداخل فدعا ذلك العام إلى تهجير بعض المناطق ونقلها من أماكنها بحجة أنها تفتقر إلى مقومات الحياة.. إجدابيا وزلة والفقهه وغيرها. ثم اختفت تلك الدعوة مثل غيرها من دعوات وممارسات لم تستمر.

خمسون مضت.. كانت رغم الخطاب الإعلامي القوي وطوفان المسيرات والأصوات والقبضات واللجان والنعيم الأرضي مفعمة بالكثير من التغيرات العنيفة والآلام وأجيال الغضب التي لم يتعودها المواطن من قبل بعد أن ظلت ليبيا هادئة وساكنة فترة من الزمن. ليبيا الرمال المتحركة.. ستظل كذلك على الدوام!