Atwasat

نزعة الظَفَر الحمقاء

سالم العوكلي الثلاثاء 08 سبتمبر 2020, 02:44 صباحا
سالم العوكلي

بداية الثمانينيات، حين كان الوقت يمر بطيئا، بعد أن توقفت الأعمال الخاصة، وصودرت بيئة الكثير من الهوايات، وأصبح الجميع يسبح في بحيرة من الكسل ينتظر معاشه كل آخر شهر، كان الزائر الجديد المحبب جهاز الفيديو الذي عوض اضمحلال دور السينما مع بداية عصر التجهم الذي كان يفتي بعبثية كل شيء يتعلق بالمرح. نقل جهاز الفيديو السينما إلى البيوت فزادها نوعا من الرفاهية والانعزال. وقتها وقع بين يدي كاسيت لفلم (نساء عاشقات) Women in Love شاهدت نساء عاشقات عدة مرات، لكني لم أصل إلى الرواية الأصلية الصادرة عام 1920 كي تسد الفراغات التي تركها الفلم، وظل بتعقيده ومشاهده الأخاذة وحواراته العميقة يشكل لغزا لدي، خصوصا وأن ثيمته الأصيلة متعلقة بالجسد والقوة ودافع الموت.

وأنا أقرأ كتاب "الإرهاب المقدس" للناقد والمفكر الإنجليزي، تيري إيجلتون، وفي باب "انتحاريون وقديسون" وقعت على تحليل لهذه الرواية، وأُخذت مرة أخرى بقراءة المؤلف الحاذقة لخطابات هذه الرواية الفلسفية وقراءتها في ضوء بحثه الخاص عن جذور الإرهاب في التاريخ وعن تأويلاته في الأدب والفن، وتحليله لدافع الموت والتفجير الانتحاري والإضراب عن الطعام كطقوس تنبع من مواجهة السلطة بانمحاء الجسد.

منذ سنين طويلة ترسبت في ذهني بعض المشاهد المثيرة من نساء عاشقات مازلت أذكرها جيدا، مثل المصارعة العبثية أمام المدفأة على سجادة البيت بين شخصيتي الفلم (جيرالد وبيركن) وهما عاريان تماما، وركض أورسولا ورقصها وسط قطيع هائج من الثيران الراكضة، وتلك الرعشة الأيروتيكة التي توحي بها آلات المناجم الصاخبة. وأحاول هنا أن أعيد كتابة ما اقترحته من مزيج بين هذه المشاهد وقراءة إيجلتون للرواية.

يكتب إيجلتون: "تعتبر رواية نساء عاشقات، ربما الرواية الطليعية الأكثر فلسفية في الحداثة الأدبية الإنجليزية، ترى بأن الحضارة الليبرالية والمسيحية الإنسانوية موشكة على انهيار هائل. ففي احتقاره النيتشوي للشفقة والمعاملة الأبوية، وفي عبادته للموضوعية، واحتقاره للتعاطف، وتفضيله للقوة على الحب، يحدد بطل الرواية جيرالد نهاية الإنسان.". وهذا ما يجعله يرى جازما أن البشرية ستخطو خطوة عظيمة في طريق التقدم البشري لو مُحي معظم البشر من الوجود.

ظهرت الرواية عندما كانت الفلسفة تتقاذفها مقولات شائكة عن الإرادة والعدمية، والتي يعتبرها إيجلتون وجهين لعملة واحدة، ويستخدمها كمداخل ممكنة لفهم سيكولوجية المفجر الانتحاري، والجذر الأصيل لما يسمى إرهاب الدولة في الوقت نفسه، كما يربط المتعة المرضية بفكرة دافع الموت العبثي، وباعتباره صاحب منجم تسحق فيه الآلة البشر يروق له النظام اللاشخصي الذي تمثله الآلة والذي هو صارم ومريع وغير إنساني ومترع بالنزعة التدميرية: "يشعر جيرالد برعشة الأورجازم في الآلية الوحشية لمناجمه." ومن جانب آخر، تستمد عاشقته برانجون إثارة جنسية مشابهة من البعد الآلي المتوحش لمناجم الفحم الحجري، ويشكل هذا الاستمتاع الآلي بالوحشية عَرَضا من أعراض دافع الموت الذي يجد متعته في كل ما يجرد الإنسان من إنسانيته، وليس من قبيل المصادفة ــ يقول إيجلتون ــ أننا نقترب هنا، إذا تحدثنا تاريخيا، من حافة الفاشية. ويضيف: "الواقع أن هذه الرواية تتمحور حول دافع الموت. يمتلك فيها كل من البطلين ميلا واضحا إلى اشتهاء الموت. والفرق بينهما هو أن حياة جيرالد هي بنحو مسبق نوع من الموت، بينما يرى بركن الموت مقدمة ضرورية لوجود متجدد.". وهي الدوافع نفسها لظاهرة الإرهاب بكل أنواعه.

بهذا المعنى، تعتبر الأعمال الانتحارية لدوافع سياسية أو أيديولوجية محاكاة ساخرة وفانتازية لما يسميه الفيلسوف كَنْت "الفعل الأخلاقي الصرف" حيث لا يراود المضحي بنفسه شك في أن في موته ولادة فكرة جديدة أو دين أو عرق أو أمة. والموت عبر وسائل التفجيرات الانتحارية كما نراها الآن ليست استثناء من هذه المحاكاة الساخرة: "فأنت تموت في الحقد واليأس مثلما تموت في الإيمان والأمل. وهناك دوما الفكرة الخادعة عن الجنة لتسهيل مرورك. لكن الشهيد الحقيقي هو الذي يتخلى عن كل شيء، حتى عن أمل الخلاص. أما المفجر الانتحاري فعينه مصوبة على مكافأته الأبدية، فهو أشبه بالشهيد المزيف الذي يحاول أن يدخل بالغش إلى نادي الجنة من خلال سَحْر مالكها.". وهذه المقابلة هي ما نجدها عند رؤيتي شخصيتي الرواية، فجيرالد يبدو أنه حليف بركن أكثر مما هو خصمه، وهما "على الأقل أخوان في الدم بقدر ما هما بديلان أيديولوجيان" وهذا ما يفسر مصارعتهما العلنية والمضحكة، وهما عاريان، على سجادة البيت.

وبالمعنى نفسه، أو من خلال فكرة الخصم الحليف، يقرأ إيجلتون ظاهرة ما يسمى الإرهاب الإسلامي الذي يهدف إلى تقويض الخصم الغربي (المهووس بالإرادة) من خلال التواطؤ مع دافع تدمير الذات داخل هذا الخصم. "وهو يستطيع الاعتماد على مساعدة طابور خامس: ألا وهو الإرادة المتجاوزة للحدود في هذا الغرب. فكلما لوثت الحضارة الغربية الكوكب ونشرت البؤس واللامساواة على نطاق عالمي، كلما قدمت المصداقية لمعارضيها". فالإرهاب حليف الوحشية الرأسمالية مهما تظاهرا بأنهما خصمان.

وهنا يجب التوقف عند اقتباس مهم لا يمكنني التصرف فيه أو اختزاله بشكل مخل، في صدد حديثه عن الأطروحة الاشتراكية كمقابل أخلاقي لهوس الرأسمالية بمنبع الإرهاب الديونوسيسي حيث تختلط المتعة والمرح بالآلة وبالدماء. فالاشتراكية كأطروحة نظرية لا تسعى إلى القضاء على الجسد وإنما إلى إعادته إلى إنسانيته: "وفي الحقيقة، ليس من المفاجئ أن بعض أولئك الذين كانوا يحتفون البارحة بموت الاشتراكية سيشعرون في الوقت المناسب بحنين عميق إليها، ولكن ليس أولئك الذين جعلوا مكاتبهم بعيدة جدا عن الأرض. يمكن أن يتمنى الاشتراكيون أن يشهدوا انحسار الرأسمالية، لكنهم لا يمتلكون خططا كي يحققوا ذلك بقنابل نووية قذرة. فأسلحتهم هي نقابات العمال وليس التيفوئيد. وهم يريدون أن يجردوا الطبقات المالكة من الملكية لا أن يبيدوها. ورغم اختفاء طبقة البروليتاريا الذي أُجزِل له الثناء، لم يتلاش بؤساء الأرض، بل غيروا العنوان فحسب. وليست هذه بشائر طيبة لأوصياء الوضع القائم اليوم، مهما هنأوا أنفسهم بغباء بأنهم دفنوا الاشتراكية. ينبغي، إذاً، على أولئك الذين يتباهون اليوم أن بروليتاريا ماركس غرقت دون أن تترك أثرا أن يتناولوا أقراص دواء الإشعاع بدلا من الشمبانيا. ذلك أن الاشتراكيين رفضوا دائما تكتيك الإرهاب رغم البعض في اليسار السياسي مازالوا يترددون في شجب الثيوقراطيات الإسلامية الجديرة بالازدراء." انتهى الاقتباس، لكن هنا مربط الفرس الذي سبق أن تطرقت له في سياق حديثي عن الغشاوة التي غطت على عيون اليسار السياسي أو الفكري العربي حين اعتقدوا، وبعضهم مازال يعتقد، أن الثورات الدينية التي استخدمت طبقات الفقراء هي مظهر من مظاهر انتصار الاشتراكية. لكن "الاشتراكية هي بلسم الإرهاب. كما يؤكد إيجلتون، ويرى أنها البديل الأخلاقي لهذا الوحش الرأسمالي الذي يعتقد غيبا كما شخصية جيرالد أن البشرية ستخطو خطوة عظيمة في طريق التقدم البشري لو مُحي معظم البشر من الوجود. والبديل المطروح الآن بقوة هي الروبوتات والذكاء الصناعي. أما "الذين أعلنوا بنوع من الاستسلام نهاية التاريخ، أو كانوا يعتقدون ذلك قبل تدمير مركز التجارة العالمي، كانوا يهدفون إلى إعلان الانتصار النهائي للرأسمالية، ولكن نزعة الظفر الحمقاء هذه، هي التي حرضت الجماهير الإسلامية على التحرك مطلقة بداية مرحلة جديدة. فقد نجح إغلاق التاريخ في فتحه مرة أخرى فحسب.".

لقد كِيل المديح لرونالد ريغان لأنه: "جعل مواطنيه يشعرون أنهم جيدون "وكانت هذه إحدى أخف جرائمة. (جيد وجيدون) التي يستخدمها ترامب الآن في كل خطاباته وتغريداته بشكل مسرف، ولهذا السبب ــ يؤكد إيجلتون ـ إن الولايات المتحدة هي آخر أمة على الأرض تدرك لماذا هي عرضة للهجوم اليوم. ويبقى تبجحها بالقوة والإرادة شبيها بتبجح جيرالد الذي كلما استخدم قوته المهيبة كلما تداعي من الداخل.