Atwasat

التفكك لا نرضاه

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 06 سبتمبر 2020, 03:07 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في مقال سالم العوكلي «التفكك ولو لم نحبه» (الوسط http://alwasat.ly/news/opinions/293485?author=1 ) رد مضمر، في تصوري، على مقال عبدالرحمن هابيل «تفكيك السفينة الليبية في عرض البحر» (الوسط http://alwasat.ly/news/opinions/293235?author=1) الذي يحذر فيه بقوة من اللجوء إلى الحل الفدرالي في ليبيا في الظروف الحالية، والذي كان محل نقاش من جانبي في مقالي «تقرير مصير؟».

لكن هذه النقطة، بالنسبة إلى هذا المقال، غير ذات شأن.

ينقسم مقال سالم «نظريا» إلى قسم تنظيري عام وقسم «تطبيقي» على ليبيا. ولكن القسم التنظيري يضمر، عمليا، حديثا عن ليبيا تحديدا. فهو ليس مجرد مقدمة تشكل خلفية للموضوع المتناول، بل دخول «مموه» في صلب الموضوع الليبي. وسنكتشف ذلك عند قيامنا بتحليل مستوى الخطاب في المقال، بداية من العنوان.

عنوان المقال «التفكك ولو لم نحبه»، حيث نجد هنا استخدام ضمير المتكلمين. وهذه الصيغة هنا ليست «مفردا بصيغة الجمع» التي تظل معبرة عن شخص مفرد، ولكنها تعبير عن جمع من قبل شخص مفرد. إنها صيغة جمع بـ«ضمير» مفرد. أي أن سالم انتدب نفسه للتعبير عن توجه جمعي. وهو، على أية حال، توجه جمعي «عقلاني» لا يدعو إلى «التفكك» كهدف منشود في حد ذاته، ولكنه يرضى به مضطرا. ولكن النتيجة، في هذه الحالة، هي أن هذا التوجه، أو التيار، يشكل إضافة عددية تراكمية إلى التيار الذي ينشد التفكك. صيغة ضمير المتكلمين هذه يمكن أن تعني هنا أيضا الكلام باسم الشعب الليبي، وفي هذه الحالة يُنصب سالم العوكلي نفسه ناصحا للشعب الليبي بقبول التفكك. وإذن، فمقال سالم دعوة للتفكك ناعمة الملمس تتشح برداء عقلاني. وهذا طبعا في حالة اقتناعنا بما ساقه سالم العوكلي من حجج تجعل من «حل» التفكك البديلَ الأقل سوءا، هربا من الحل الأكثر سوءا.

لكن ما الحل الأكثر سوءا الذي يريد العوكلي من الشعب الليبي الفرار منه إلى التفكك؟ إنه «النظام الفردي الشمولي». ذلك أن «النظم الفردية أو الشمولية لا تقوم إلا فوق جمهور تحول إلى كتلة واحدة يمكن التحكم فيها وإدارتها بسهولة، وهي نظم مثل الصخرة التي لا تستقر إلا فوق كومة من التراب تمثلها قاعدة اجتماعية متجانسة لدرجة التشابه الذي يخدم الوصفة الاستبدادية للحكم، ومن هذا المنطلق كثيرا ما صعدت نظم الاستبداد فوق ظهر الجميع بذريعة أنها القوة الموحدة، أو المحافظة على وحدة الأمة، وغالبا ما يحتاج هذا المجتمع الموحد عنوة إلى قدر من الضغط الكبير كي تتفاعل عناصره المختلفة قسرا، والتي عادة ما تتفكك بمجرد زوال القوة الضاغطة». أي أنه ما دام «النظام الفردي الشمولي» قادما لا محالة، حسب التوقع الذي ينطوي عليه مقال سالم، فلنسارع باللجوء إلى التفكك.

أنا مضاد، جملة وتفصيلا، للأنظمة الفردية الشمولية، لكن لنفترض أن ليبيا تفككت إلى شظايا، فهل لدى سالم ما يضمن أنه لن يقوم نظام فردي شمولي على «فكيكة»، أو أكثر، من هذه «الفكائك»؟. خصوصا أن هذه الفكائك، أو الشظايا، ستكون قواعدها الاجتماعية «متجانسة لدرجة التشابه الذي يخدم الوصفة الاستبدادية للحكم»، إذ كلما صغر حجم الفكيكة، جغرافيا وديموغرافيا، زاد تجانسها وقل أو انعدم التعدد داخلها. وإذا حدث هذا فهل ينصح سالم هذه الفكيكة التي قام على أرضيتها الاجتماعية المتجانسة نظام استبدادي بالتفكك.. وهكذا إلى ما لانهاية، بما أن الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ، غير موجود، مثلما أثبتت الفزياء الحديثة؟

خطاب سالم في هذا المقال، على غير العادة، خطاب ملتبس. فهو يستخدم ثلاثة ألفاظ مختلفة هي «التفكك» و«التشظي» و«التعدد» بمعنى واحد تقريبا، في حين أن الأمر مختلف. فإذا كان «التفكك» مثل تفكك آلة ما إلى أجزاء، و«التشظي» مثل انكسار وعاء زجاجي أو فخاري وتحوله إلى شظايا متناثرة متقاربي المعنى، فإن التعدد مختلف تماما، إذ إن التعدد لا ينفي الوحدة. فالتعدد مثل لوحة الفسيفساء، إذا اقتطعت جزءا منها بطل كونها لوحة.

الالتباس يستبطن مقال سالم من أوله إلى آخره. فرغم أن عنوان المقال يرضى بالتفكك، ويتحدث في المتن عن «المجتمعات التي تشظت (بشكل إيجابي) بعد عقود أو بالأحرى قرون من التشابه الإجباري ومن الاستسلام له عبر القوة التي تفرضه»، أي أنه يصف تشظي هذه المجتمعات، منها ليبيا بالطبع، بأنه تشظٍّ إيجابي، نجده، حين التطرق إلى ليبيا بشكل مباشر، يتحدث عن التعدد «ليس التفكك أو التشظي». ويطالب بوضع «ميثاق وطني أو دستور حقيقي يستطيع احتواء وإدارة هذا التعقيد الاجتماعي والجغرافي والاقتصادي، الذي أعلن عن نفسه بعد حقبة من التنميط القسري الذي وضع السلطة في جانب والمجتمع في جانب آخر». وهنا أجد نفسي محتارا: هل يدعو سالم إلى القبول بالتفكك رغم عدم حبنا له، أم أنه يدعو إلى مواجهة التفكك وتفاديه «من خلال ميثاق وطني أو دستور حقيقي..»؟ أجازف هنا بتخمين ما قد يكون مقصد سالم. لعله أراد القول إن «التفكك، ولو لم نحبه (أي شئنا أم أبينا)» قادم لا محالة، ما لم نتوصل إلى الاتفاق على «ميثاق وطني أو دستور حقيقي».

أريد أن أنتقل من هذا النقاش النظري إلى تناول بضع نقاط تفصيلية وردت في مقال سالم. يقول: «فكثير من الأمم تعرضت لتشرخات حادة أدت إلى انقسامات وحروب دموية استنفدت طاقة هذه الأمم التي أصبحت تبحث عن حل بقناعة أن هذا التنوع في المزاج السياسي والاقتصادي والثقافي ما عاد بالإمكان حكمه مركزيا، ومن خلال هذا الواقع انبثقت الدول الفدرالية كما الولايات المتحدة بعد حرب أهلية ضارية». المعروف أن ما يسمى الآن الولايات المتحدة الأميركية لم تكن دولة واحدة موحدة وأن مكوناتها أدركت عند نقطة حاسمة ما «أن هذا التنوع في المزاج السياسي والاقتصادي والثقافي ما عاد بالإمكان حكمه مركزيا» الأمر الذي أفضى، حسب سرد سالم، إلى «حرب أهلية ضارية» انبثقت عنها الدولة الفدرالية. الواقع أن أميركا بعد إحراز الاستقلال عن بريطانيا كونت اتحادا كونفدراليا قبل أن تتحول إلى اتحاد فدرالي، أي أن أجسام الاتحاد الفدرالي كانت دولا مستقلة. وهذا ظاهر في لفظة «state» التي تعني في الأصل دولة واحتفظ به في أميركا بعد إنشاء الاتحاد الفدرالي للدلالة على الولاية، إذن فالترجمة العربية الصحيحة لاسم أميركا الرسمي United States of America ينبغي أن تكون «الدول الأميركية المتحدة».

أما الحرب الأهلية فوقعت بعد ذلك عندما أعلنت إحدى عشرة ولاية جنوبية الانفصال عن الاتحاد الفدرالي وكونت اتحادا كونفدراليا وقامت قوات الشمال بإعادتها إلى الحظيرة الفدرالية، أي أن الحرب الأهلية كانت حربا بين التفكك والوحدة وانتصرت فيها الوحدة «وإن كانت وحدة فدرالية».

من جانب آخر يقول سالم: «ضغط الدول مالكة الشركات النفطية العاملة في ليبيا هو ما أدى إلى التعديل الدستوري الذي ألغي بموجبه النظام الفدرالي». وهذا صحيح تماما. فشركات النفط كان يهمها التعامل مع حكومة واحدة بدل التعامل مع أربع حكومات، هي حكومات الولايات إضافة إلى الحكومة المركزية، حيث لكل حكومة من هذه الحكومات قوانينها المختلفة، لكن هناك عامل آخر تغاضى عنه سالم، وهو أن هذا المطلب توافق مع طموح الشعب الليبي إلى الوحدة. لقد خدم إلغاء الفدرالية مصلحة اقتصادية للشركات النفطية، وخدم، في نفس الوقت، مصلحة اقتصادية وسياسية للشعب الليبي. ومن المعروف أن البرلمان الليبي، بغرفتيه، أقر هذا الإلغاء. ولم نسمع بخروج أية مظاهرة اعتراض واحتجاج على هذا الإلغاء، حتى في إقليم برقة الذي يتمركز فيه حاليا دعاة الفدرالية والانفصال، أي دعاة التفكك، الذين لا ينتمي إليهم سالم العوكلي مبدئيا.

يرى سالم أن أهم ما في النظام الفدرالي «كونه لا يشكل بيئة مناسبة لإنتاج حكم شمولي» يقصد أنه يمنع احتمال قيام انقلاب عسكري. وهذا ليس صحيحا، فهذا الاحتمال يظل قائما حتى في الأنظمة الفدرالية، ذلك أن المؤسسة العسكرية فيها ليست مقسمة بين حكومات الولايات، وإنما تخضع للحكومة المركزية مباشرة. وفي هذا السياق لا يمكنني، معرفيا، إيراد إلا مثال واحد هو مثال نيجيريا، فنيجيريا تأسست بعد استقلالها عن بريطانيا كجمهورية اتحادية مكونة من أربع ولايات، وهذا لم يحل دون قيام سلسلة من الانقلابات العسكرية فيها.