Atwasat

التفكك ولو لم نحبه

سالم العوكلي الأربعاء 26 أغسطس 2020, 02:55 صباحا
سالم العوكلي

مثلما يتحدث البعض عن الإيجابيات التي نضحت عن جائحة كورونا، من عودة الحياة الأسرية إلى تراجع نسبة التلوث في الغلاف الجوي، من الممكن الحديث عن إيجابيات غير مقصودة تفتقت عنه هذه الجائحة التي تمر بها ليبيا منذ عدة سنوات، أهمها على الإطلاق أن هذا البلد الذي وصل به الصراع إلى ذروة التشرخ ما عاد بالإمكان أن يحكمه شخص واحد أو وجهة نظر واحدة .

النظم الفردية أو الشمولية لا تقوم إلا فوق جمهور تحول إلى كتلة واحدة يمكن التحكم فيها وإدارتها بسهولة، وهي نظم مثل الصخرة التي لا تستقر إلا فوق كومة من التراب تمثلها قاعدة اجتماعية متجانسة لدرجة التشابه الذي يخدم الوصفة الاستبدادية للحكم، ومن هذا المنطلق كثيرا ما صعدت نظم الاستبداد فوق ظهر الجميع بذريعة أنها القوة الموحدة، أو المحافظة على وحدة الأمة، وغالبا ما يحتاج هذا المجتمع الموحد عنوة إلى قدر من الضغط الكبير كي تتفاعل عناصره المختلفة قسرا، والتي عادة ما تتفكك بمجرد زوال القوة الضاغطة. وبالتالي فقد شكل شعار الحفاظ على الوحدة الوطنية أهم لافتات هذه النظم الفاقدة للشرعية والتي تحاول اكتساب شرعيتها من هذا الشعار. وهذا سينطبق على كل المنطقة التي تشهد اضطرابات منذ بداية الثورات العربية، والتي يكمن السبب في أزماتها في كون الصراع فيها يتم بين قوى تريد أن تعود بهذه المجتمعات إلى عصر ما قبل التفكك، ومحاولة تحويلها من جديد إلى كتلة واحدة تحت شعار الوحدة الوطنية ويمكن لهذه الكتلة أن تنتج دكتاتورا جديدا أو نظاما مستبدا، وعصيان هذا الواقع لمحاولات الهيمنة هذه هو ما يجعل الأزمة تستمر والصراع على أشده، طالما وهم فكرة حكم الفرد واردة عند البعض، ومازال الحنين لما قبل هذه الهَبَّات المحطمة للنظام الاجتماعي والسياسي القديم قائما، ولأن هذا التوق ضد المنطق التاريخي سيثير المزيد من العنف والصراعات الدموية إلى أن يقتنع الجميع بأن كومة التراب التي يحاول أن يرفع فوقها صخرته ما عادت موجودة، وأنه لا مناص من التفكير في إدارة هذه التناقضات والتشرخات دون التنكر لها، ولا وسيلة لإدارة التناقضات إلا بالتسليم بمبادئ التعددية والمشاركة، وهذه الإدارة لا يمكن أن تتحقق إلا عبر وثيقة دستورية حقيقية تضمن الحقوق للجميع وتحقق نوعا من الانصهار الوطني المرتبط بخدمة مصالح المجتمع وليس بشعارات عاطفية أثبتت الوقائع أن لا أساس لها في الواقع.

التعددية ترغم أو تفرض نفسها؛ حتى وإن كانت بشكل بدائي، لمن لا يريدها أو لمن لم يتعود عليها، وهي تطرح نفسها عبر أقنعة مختلفة أو مصطلحات مثل المحاصصة، أو المشاركة السياسية، أو الدعوة إلى نظام فيدرالي، أو الرهاب من المركزية، وهي دعوات تشي بتغييرات جذرية في طبيعة المجتمع الذي بدأ يخرج من طور الكتلة أو القطيع إلى فضاء تعددي ومعقد على أي قوة أو فرد يحاول أن يكون على قمة هذه الكتلة أو الراعي الوحيد لهذا القطيع. وكلها تشكل محتوى المبادرات التي تنبئ بوعي جديد يجتاح المنطقة مذ غادرت اللون الواحد، وفي حديثي مع البعض الذين تستفزهم مطالب (المحاصصة) أو الفيدرالية او حقوق الثقافات الأخرى، بكونها نتاجات طبيعية لثورات التمرد على التشابه الذي فُرِض قهرا على المجتمع كي تسهل آليات التحكم فيه، ولأن مسودة الدستور لم تعِ هذه التبدلات الجذرية فشلت في أن تنتج مدونة قد تفتح فضاءا عقديا وسلميا لهذا التنوع بدل أن يعبر عن نفسه بخطابات التعصب أو العنف، وفي الأساس جاءت الدساتير لتحل مشاكل هذه المجتمعات المعقدة ولتنهي حقبا من الصراعات الدموية عبر إتاحة فضاء للتعايش والمشاركة ولتصبح مدونات مقدسة لدى الأمم التي تجاوزت هذه الصراعات السلبية بميثاق وطني يوافق عليه الجميع أو الأغلبية. وفي مضمونها يكمن الوعي بتجاوز عصر كومة البشر التي كل مرة يصعد فوق أكتافها شخص، أو القطيع البشري الذي دائما يحتاج لعصا وكلاب الراعي. ومن هنا تبرز صعوبة كتابة الدساتير في هذه المجتمعات التي تشظت (بشكل إيجابي) بعد عقود أو بالأحرى قرون من التشابه الإجباري ومن الاستسلام له عبر القوة التي تفرضه.

هذا الوهم الذي داعب بعض من أرادوا أن يركبوا موجة الربيع العربي ويعيدوا عقارب الساعة إلى ما قبله عبر وارثين جدد، هو ما ورط جماعة الأخوان أو ذراعها السياسي في محاولة الانفراد بالسلطة، وإزاحة هذا التنوع، وبالتالي ورطوا مجتمعاتهم في هذا الصراع، لأن رغبتهم ما عادت تناسب طموح هذه المجتمعات، ولأن القاعدة التي تصلح لأن يبنى عليها نظام فرد واحد أو حزب واحد تشرخت منذ أن خرج الناس غاضبين للميادين والشوارع ومنذ أن ملكوا وسائل تعبيرهم عبر الفضاء الإلكتروني .

هذا التشرخ سيؤدي في بعض الدول التي لها باع في العمل السياسي إلى صراعات سياسية حادة وإلى صعوبة في تشكيل حكومات توافقية أو انتخابات رئاسية، وفي الدول التي ليس لها خبرة ولا كوادر سياسية سيؤدي إلى حروب بين أطراف الصراع، وجميعها في ظل وهم أن ثمة فردا أو حزبا أو جماعة يمكنها أن تحكم.

فكثير من الأمم تعرضت لتشرخات حادة أدت إلى انقسامات وحروب دموية استنفدت طاقة هذه الأمم التي أصبحت تبحث عن حل بقناعة أن هذا التنوع في المزاج السياسي والاقتصادي والثقافي ما عاد بالإمكان حكمه مركزيا، ومن خلال هذا الواقع انبثقت الدول الفيدرالية كما الولايات المتحدة بعد حرب أهلية ضارية، واضطرت دول أخرى إلى التقسيم بعد أن عاشت ردحا من الزمن تحت نوع من الوحدة القاهرة، كما في يوغوسلافيا أو تشيكوسلوفاكيا وغيرها، وأي أمة لا تعرض سؤال هويتها أو هوياتها للضوء تتعفن في رطوبة كهوف الاستبداد المعتمة، إنها مسألة هوية، وكما تقول كوبينا ميرسر "لا تصبح الهوية مسألة مثار نقاش إلا حين تواجه أزمة، حين ينزاح ما نفترض ثباته واتساقه واستقراره بسبب ما يتعرض له من شكوك وعوز لليقين.".

وهذا الارتباك حيال الهوية والجغرافيا هو ما فرض على ليبيا بداية استقلالها بأن تكون دولة فيدرالية تعمل تحت دستور ملكي فرضت عليه الاستقاطابات الاجتماعية والسياسية هذا الشكل للدولة الناشئة، غير أن ضغط الدول مالكة الشركات النفطية العاملة في ليبيا هو ما أدى إلى التعديل الدستوري الذي ألغي بموجبه النظام الفيدرالي، والذي كان أهم ما فيه كونه لا يشكل بيئة مناسبة لإنتاج حكم شمولي، وحين جاء نظام جديد عبر الانقلاب وجد كومة التراب الواحدة التي وضع فوق كاهلها صخرته بكل سهولة. وظلت مقولات التهميش والمركزية والحقوق الثقافية للمكونات المختلفة تنبض تحت غطاء قهري تغذيه مقولات عاطفية عن النسيج الواحد واللحمة الوطنية، وهي شعارات فضفاضة، بقدر ما تلغي الحقوق بقدر ما تلبي حاجة الحكم الفردي لأن يبني هيكله الاستبدادي في ظل هذه الشعارات التي يهبها هالة من القداسة يصبح مجرد نقدها أو عرضها للنقاش خيانة وردة.

يقول تي إس إليوت "لكي تزدهر ثقافة شعب ما ينبغي أن لا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام. ففرط الوحدة قد يكون ناشئا عن االهمجية وقد يؤدي إلى الاستبداد، وفرط الانقسام قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا التوجهين يعوق إطراد النمو في الثقافة.".

منذ سقوط النظام تصاعد الحديث عن (ليبيا جديدة) والبعض الساذج فسر أن ليبيا الجديدة ستكون مثل نموذج دبي أو نماذج أخرى لا تتعلق بالتغيير في محتوى الكيان البشري، لكن ليبيا الجديدة هو ما نراه الآن من تعقيد في حركة المجتمع وعلاقاته واضطراباته، وإدارة هذا التعقيد هو التحدي الأكبر، والجميع بدأ يعرف أنه لا يمكن وضع ليبيا على الطريق إلا من خلال ميثاق وطني أو دستور حقيقي يستطيع احتواء وإدارة هذا التعقيد الاجتماعي والجغرافي والاقتصادي الذي أعلن عن نفسه بعد حقبة من التنميط القسري الذي وضع السلطة في جانب والمجتمع في جانب آخر.