Atwasat

سحر "الصدقة"

محمد عقيلة العمامي الإثنين 24 أغسطس 2020, 02:41 صباحا
محمد عقيلة العمامي

في مطلع السبعينات كُلف الدكتور رؤوف بن عامر بتأسيس كلية الطب في بنغازي، وعملت معه مسجلا للكلية. أشهد الله، وباختصار شديد، أنه أسسها بمهنية علمية وإخلاص يفوق الوصف. ربط الكلية بجامعتين عريقتين هما جامعة برمنجهام وجامعة القاهرة. وانتقى من قوانينهما ما جعل بداياتها باهرة. لم تستمر عمادته للكلية سوى زمن الدفعتين الأوليين، ولعل خريجي هاتين الدفعتين خير دليل على حسن إدارته ودقته، وحرصه الشديد على تحقيق الأفضل.

من بين القوانين التي اقتبسها من جامعة برمنجهام، ضرورة مثول المُتقدمين للكلية أمام لجنة قبول الطلبة، كانت غاية تلك المقابلات الاقتناع بشخصية الطالب ليكون طبيبا.

سنة 1972 ترأس الدكتور مراد لنقي هذه اللجنة بعضوية الأستاذ اسعد المسعودي، وعضويتي. كنا قد أتممنا قبول طلبة المنطقة الشرقية، وانتقلنا إلى طرابلس لقبول طلبة المنطقة الغربية. وأثناء عملنا اتصل بي الدكتور رؤوف بن عامر، وأخبرني متأسفا أن والدتي في غيبوبة وتحتاج إلى عملية جراحية حساسة وسريعة، وأنه اتصل بجامعة القاهرة ونسق معهم بخصوصها، وسوف تنطلق بها عربة إسعاف رفقة شقيقي، وبعث بتذكرة سفر لي من طرابلس إلى القاهرة لأكون في استقبالها. التذكرة كانت من حسابه الخاص.

وبعد شهر عدت بوالدتي وهي في أحسن حال، بعد أن أزالوا جُزءا من معدتها. وصلنا بيتنا، وكانت فرحة الأسرة والجيران كبيرة. وما إن عبرنا الباب، حتى وجدت «سي عقيلة» خلف الباب مباشرة، وبغتة سبق بناته في احتضانها، وامتلأت عيناه بالدموع، وهو يقول لها: «خفت عليك واجد، يا أوفيه، والحمد لله أنه استجاب لدعائي، ردي بالك اتقلعي قبلي. من غيرك معيشتى واعرة» وبكت وافية أيضا.
منذ ذلك اليوم انتبهت، أو خُيل لي، أنهما أصبحا يتحركان ويتحدثان ببهجة عبر هالةٍ من الود والمحبة أحاطت بهما. أصبحت كثيرا ما أراهما متقرفصين يوشوشان. أصبحا عجوزين عاشقين وسعيدين، ولكنهما لم يكونا كذلك قبل مرض «وافية»!

«وافية وسي عقيلة» كانا بالنسبة لي صديقين، هكذا كانت علاقتي بهما طوال عمري، ولذلك عندما بدأت أناكف والدتي، ترد علي بابتسامة ولكنها لا تمنحها إلا عندما نكون بمفردنا! وذات يوم قلت لها: «اسمعي يا وافية، همس الناس بدأ يعلو! إنهم يتحدثون ويتساءلون عن هذا الفقي المصري الذي كتب لك حجاب المحبة»، وانتبهي «كل شيء انكشف وبان»! سي عقيلة لم يعد يغادر البيت، وأنا اشتقت إلى «مناكفاتكما!». ضحكت وأجابتني بابتسامتها الدافئة: «(دور على من علم بوك الكلام السمح)؟ من أطلق لسانه. أنا عمري ما سمعت منه كلمه طيبة إلا بعد عمليتي! أربعين سنة يدخل البيت ينفخ، ويطلع ينفخ. لكن سبحان مغير الأحوال. لسانه انطلق. ويا (باتي) البني آدم مرايا: تضحك لها تضحك لك. تكشر لها تكشر لك».

حكيت لكم قصة «وافية وسي عقيلة» لأنني قرأت منذ ليلتين قصة قصيرة، خلاصتها أن مربي ماشية قويا وصلبا وجافا للغاية لكنه يملك قلبا محبا، غير أنه صامت، قلما يعبر عن مشاعره. زوجته على الدوام معتلة الصحة، وعندما ازداد بها المرض أخذها للمستشفى، وأجريت لها عملية، واحتاجت إلى دم وتصادف أن فصيلتها كفصيلة زوجها فمنحها ما تحتاجه، ولكنها لم تتحسن فقال للطبيب: «هيا خذ كمية أخرى من دمي.. ينبغي أن تتحسن».

وفيما كان الدم يتدفق منه إليها، نظر لها بمحبة وقال لها: «سأعيد إليك صحتك، لا تقلقي، فتمتمت متسائلة: لماذا؟ فأجابها: لأنني أحتاج إليك!»، فالتفتت إليه وقالت له: «ولكنك لم تقل لي ذلك أبدا من قبل!».

ويقول الطبيب، لحظات من بعد سماع الزوجة اعتراف زوجها بدأ نبضها يزداد. وقال مؤكدا: «لم يكن نقل الدم هو الذي أعاد الحياة إلى المريضة، بل ما قاله الزوج لزوجته!».

أعترف أنني من أولئك الذين يعون جيدا أن الكلمة الطيبة بلسم، وأعلم أيضا أنه كثيرا ما تكون الكلمة الطيبة على لساني، ولكنني لا أقولها؛ أحيانا لأنه هناك من يسمعنا ولا علاقة له بما أريد قوله، وأحيانا أقنع نفسي أن الوقت غير مناسب، من غير أن ندرك أنه لا ينبغي أن تؤجل الكلمة الطيبة، فهل من المنطق أن تؤجل الصدقة؟

ورد في القصة التي ذُكرت قول منسوب إلى القديس «أوجستين»: «لقد وعدنا الله بالمغفرة عندما نندم، ولكنه لم يعدنا بالغد لتأجيل الاعتراف بالندم!».

قل كلمة إطراء كل يوم لزوجتك، أو ابنك، أو صديقك، أو أخيك، فلا شيء يغمر المرء بالبهجة مثل إحساسه أنك مهتم به. فما بالك عندما يكون هذا «المرء» رفيقا لحياتك!