Atwasat

خريطة طريق لبناء ليبيا الحديثة (5)

محمد عبد العزيز الفقهي الأحد 23 أغسطس 2020, 11:52 صباحا
محمد عبد العزيز الفقهي

الخلاصة

الذي حدث منذ 2011 إلى الآن هو تحول الحكم من ديكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية الأقلية، وهم جماعة يمين فبراير المتنفذة بالمال السياسي والسلاح، فغالبية جماعة فبراير لم يحكموا وغير راضين عما آلت إليه الأمور. فانتخابات بين طبقة سياسية ليست متفقة على قواعد الاشتباك أو بينهم ميثاق، ديكتاتورية الأغلبية لا ديمقراطية. ومن يسعى إلى ديكتاتورية الأغلبية، والحكم بالشرعية الثورية وقوانين العزل والتجريم الذاتية العنصرية، يجعل فبراير انقلابا لا ثورة. فالثورة تغيير في مبدأ الحكم، أما الانقلاب فتغيير حكام. والحاصل إلى الآن هو تغيير حكام، ولم يتغير مبدأ الحكم بعد.

وقد حذر من هذا أرسطو في كتابه «السياسة»، وبين أن ديكتاتورية الأغلبية أشر وأنكى من ديكتاتورية الفرد، وهو ما خبره الليبيون في السنوات الماضية. فالديمقراطية ليست حكم الأغلبية المحض، وإنما حكم الأغلبية المتصالحة دستوريا مع باقي القوى السياسية. ومن ثم، لن يحصل انتقال ديمقراطي في ليبيا، ما لم يوقع ميثاق وطني، وتؤسس على المصالحة الدستورية بين سبتمبر وفبراير، بالإضافة إلى تكوين تيار الوسط. هذا شرط الانتقال الديمقراطي، المتضمن أربعة أركان تمثل ملخص فلسفة الدولة الليبية الحديثة باعتبار جغرافيتها السياسية، ذاكرتها التاريخية وإمكاناتها، وإطارها القيمي الذي يمثل حدود عمل القوى السياسية وتنافسها في تفاصيل هذا الإطار:

1. المصالحة الدستورية، كونها تمثل منطق وشرعية وجود الدولة الليبية. وقد مثلت باعتبار التاريخ القريب مصالحة بين ثلاث جماعات وهي جماعة سبتمبر، جماعة فبراير اليمين وجماعة فبراير اليسار. الميثاق السالف الذكر هو نقاط مستنبطة بين الجماعات الثلاث التي تدور حول الخلاف على مسألتي السيادة وتداول السلطة، والتي يمكن ضمها في ميثاق يصبح قانونا أساسيا، أو أن يتضمن في أكثر من قانون ضمن حزمة إجرائية لحكومة منتخبة، أو أن يتبناها تيار أو حزب. تجاهل هكذا نقاط والإصرار على اللقاءات والمواثيق الشكلية، والمغالبة من قبل طرف، لن يحقق انتقالا ديمقراطيا ولا يقود إلى دولة حديثة، وإنما سيكون استمرارا لحالة العبث الحالية.

2. الديمقراطية المستدامة، هي الركن الثاني من إطار الدولة الليبية كديمقراطية جيل ثالث مبنية على الاقتصاد المختلط بين العام والخاص، والذي تسعى الدولة فيه إلى ثلاثة تأمينات رئيسة. تأمين المعيشة الكريمة، تأمين الصحة، وتأمين مستقبل الأجيال. أيضا مبنية على الموازنة بين مبدأ النيابة والمباشرة، ويتمثل ذلكم في الجمعية الوطنية كسلطة رابعة تحكيمية، والاستفتاءات الشعبية الدورية كجمعية وطنية مباشرة في الخمس حالات المذكورة في الميثاق. ولنجاح الديمقراطية عموما ناهيك بالمستدامة منها، لا بد من اعتماد النظام السياسي الأصلح لليبيا، والنظام الأصلح المتزن مع المجتمع الليبي لا مع مصلحة قوى سياسية ما هو النظام الرئاسي وليس البرلماني. فالبرلماني بحاجة إلى طبقة متوسطة كبيرة، وأحزاب عريقة، ومجتمع لا يعاني من تمزق نسيجه كليبيا. فمخالفة هذه الوقائع، والإصرار من البعض لاعتماد النظام البرلماني لمصالحهم الخاصة، سيقود البلاد إلى مزيد من الاحتكار والمحاصصة، وانتخاب حكومات ضعيفة لن تصمد العامين، مما سينعكس سلبا على المواطن، ويزيد أزمة الثقة بينه وبين الدولة. وضريبة كل ذلكم هو إما حرب أهلية، أو انقلابات عسكرية، أو دعاوى انفصالية. فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، وحسبكم حالتا العراق ولبنان، وحال جارتنا إيطاليا، التي نصح حكماؤها بالنظام الرئاسي ومن أبرزهم المنظر الديمقراطي الكبير جيوفاني سارتوري.

3. العلاقات الدولية المستدامة، كما شرحتها سابقا المبنية على أساس علمي وتموضع ليبيا جغرافيا وإمكانيا، لا علاقات دولية عشوائية مبنية على نظرة القوى السياسية الفائزة في الانتخابات.

4 . تيار الوسط كرافعة وحاملة قيم لكل ما ذكر. والحزبية عموما مهمة، فإلغاؤها وأد للديمقراطية، وعبثية وجودها يفسدها. عليه وجب وجود قوانين تنظم إنشاءها وفق معايير. فكثير من الأحزاب والتيارات هي مجرد شعارات وصولية وتجمع انتخابي لجماعة مصالح خاصة موقتة. وليبيا لا يوجد فيها سوى ثلاثة تيارات كوجود قيمي: تيار يمينى، وإن لم يتشكل في حزب فهو تيار سلطوي أو سلطاني يسعى لدولة الحزب الواحد وذلك بشيطنة الخصوم وعدم احترام الاختلاف. ومنهم تيار يمين فبراير السالف الذكر، متطرفو سبتمبر، لفيف من الإسلاميين خصوصا ممن يتعاطون التكفير كسلاح سياسي، ويصر على أن يجعل الإفتاء من ضمن الأوراق السياسية. وتيار اليسار، لا هوية له، ومعظمه من نشطاء المجتمع المدني الذي ضد الحكم السلطوي والاستبداد، لكن ليس له إطار واضح وتنظير لديمقراطية ما. وتيار الوسط هو الذي يسعى لديمقراطية وطنية إسلامية باعتبار هوية المجتمع، وفيه من معتدلة سبتمبر، ومعتدلة فبراير، ومن الوطنيين والإسلاميين المعتدلين الذين لا يجمعهم حزب واحد أو تيار. وهذه مقالة تنظير وتأطير لهكذا تيار، الذي أسميه وسط، لأنه وسط بين اليمين واليسار. وجود هكذا تيار ضرورة لوجود الديمقراطية واستمرارها، والذي ليس من الضرورة أن ينتظم في حزب، وإنما في حزبين أو ثلاثة، أو يبقى تيارا. والديمقراطيات الراسخة عموما يتناوب عليها حزبان أو ثلاثة أو خمسة إلى حد أقصى، والتي هي مجرد مأسسة لتيارات موجودة في المجتمع.

ختاما، إن الظرف التاريخي الذي تمر به ليبيا والمنطقة والعالم، يحتم تكوين ائتلاف وسط ككتلة تاريخية للوسطية السياسية والديمقراطية المستدامة حتى تحل مشكل هوية الحكم في ليبيا والمنطقة، وتتواصل مع نظائرها في العالم نحو تحقيق العلاقات الدولية المستدامة الممكنة بين البشر، والتي من خلالها نحقق شهادتنا كمسلمين، ونكون أمة وسطا يقتدى بنا، باعتبار معنى الإمامة في الأصل القدوة والمثال.
ولن يقتدى بنا إلا بعد قيادتنا من قبل أئمة وسطية سياسية مصلحين وليسوا ثوريين. فالثوري سلاح مدفعية، وليس سلاح مهندسين. يهدم دولة، لكن لا يستطيع أن يؤسس أخرى، وإن أسس دولة فتكون على ضلع أعوج ما تلبث أن تسقط في حياته أو فور مماته. وميراث المصلح إمامة عادلة، أما ميراث الثوري فإمامة الرويبضة.
وأئمة الوسطية السياسية رجال دولة من طراز رفيع، مترفعون عن سياسة الرويبضة ROWAIBEDA POLITIK الممارسة لثالوث العصبية من توريث، أو احتكار أو محاصصة، عسى ألا تنقص الأرض منهم. قال تعالى: «فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد» صدق الله العظيم. (غافر، 44).