Atwasat

مفقود

جمعة بوكليب الخميس 20 أغسطس 2020, 12:39 صباحا
جمعة بوكليب

العنوان أعلاه ليس إعلاناً مثيراً ومشوقاً لشريط سينمائي، كما قد يخطر على بال البعض. بل إعلان عادي، رأيته ملصقاً على جذع شجرة عادية، في شارع عام عادي، في صباح صيفي غير عادي، بدرجة حرارة استثنائية، وملوث هواؤه بجراثيم فيروس وبائي، ويتعلق بكلب مفقود، خصصت مكأفاة مالية لمن يتمكن من العثور عليه.

ذلك الصباح ، بعد أن استيقظت من النوم مبكراً كالعادة، وأيقظت حواسي باحتساء أكثر من فنجان قهوة، وسممت بدني بتدخين عدة سجائر، بدأت أعد العدة استعداداً لكتابة مقالتي الأسبوعية، حين سمعت جلبة في الشارع.

فنهضت من مكاني، وتوجهت نحو أقرب نافذة مستلطعاً. رأيت شاحنة ضخمة، محملة بحاوية مأهولة الحجم، وعدة رجال بقبعات صلبة يتشاورون فيما بينهم، ثم تقدم أحدهم وتحدث مع سائق الشاحنة. عندها، أدركت أنهم بصدد انزال الحاوية، ووضعها على الجهة المقابلة لبيتي، فأيقنت أنه من الأفضل لي مغادرة البيت، وتأجيل عملي حتى تنتهي الجلبة، ويعود الوضع إلى ما كان عليه من هدوء.

ذلك الصباح، بعد أن ارتديت ملابسي، وأغلقت باب البيت ورائي مغادراً، لم أدع لقلقي فرصة لمرافقتي وإزعاجي، وحرصت، على استغلال الفرصة للتمشي، وللتفكير أكثر في موضوع مقالتي التي كنت أتهيأ لكتابتها، وعلى أمل الانتهاء منها في نفس اليوم. كان الشارع خالياً من المارة، مخيماً عليه الهدوء، حين فجأة قابلني الإعلان، وقد توسط جذع شجرة، فدفعني الفضول للاقتراب منه، ومعرفة فحواه. ما يميز ذلك الإعلان ليس ما احتواه من صورة لكلب مدلل، فكل الإعلانات عن المفقودين، سواء أكانوا بشراً أم حيوانات، لابد أن تحمل صوراً لهم. وليس المكافأة الموعودة لمن يعثر عليه. فجل الإعلانات ذات الصلة بحيوانات مفقودة، تتضمن مكافأت مالية. وقيمتها تتغير من إعلان لآخر. وهذا يتوقف على أشياء كثيرة أهمها الحالة المالية للمالك صاحب الحيوان المفقود، أو الحالة الوجدانية التي تربطه به، وما يسببه غيابه من حرقة وألم. الإعلان الملصق على جذع شجرة عادية، في شارع عام عادي، تميز عن غيره من إعلانات مماثلة وهي كثيرة، بتوسطه بجملة كتبت ببنط كبير وملون بالأحمر، وتقول: «من يحضره إلى العنوان المذكور أسفله لن يتعرض للسؤال». والمقصود حقيقة بذلك، أن من يحضر الكلب المفقود لن يكون عرضة للشك بسرقته، وليس عليه سوى إحضاره إلى بيت أصحابه، وتسليمه، واستلام مكافأته، والمغادرة. وهذا يعني ضمنياً أن سرقة الكلاب والقطط منتشرة، وأن الكثيرين من اللصوص تخصصوا فيها، وامتهنوها لأنها مجزية، وآمنة إلى حد ما مقارنة بغيرها من أعمال اللصوصية الأخرى، خاصة وأن ممتهنيها لابد وأن يكونوا من أصحاب الخبرة في الكلاب وأنواعها، وأمور التعامل معها. وكذلك، إمكانية أن أصحاب الكلب المفقود قد مروا بنفس التجربة من قبل. وتبين لي، حينها، أن أهل الكلب المفقود كسالى، والدليل على ذلك أنني لم يصادفني في كل الشارع سوى إعلان واحد. ولو كانوا على العكس لربما قابلني إعلان ملصق على كل جذع شجرة توفر في الشارع. وكسلهم لا ينفي حقيقة أنهم في سعة من الرزق، بدليل حجم المكافأة المرصودة. لكنها للأسف، لن تكون من نصيبي، لأني لا أطيق الكلاب سواء من ذوات الأربع، أو من كان منتصباً على قدمين.

وبعيداً عن قصص وإعلانات وحوادث سرقة واختفاء الكلاب والقطط والطيور، يظل موضوع اختفاء البشر في بريطانيا مثيراً حقاً للقلق، وباعثاً على الحزن. في كل 90 ثانية يتم التبليغ عن شخص مفقود في بريطانيا. الإحصاءات الرسمية تشير إلى حوادث اختفاء تصل إلى 380 ألف شخص سنوياً. لكن نسبة كبيرة منهم، لحسن حظهم، يتم العثور عليهم وإرجاعهم إلى أهلهم وذويهم، في حين أن نسبة أقل منهم، لسوء حظهم، يختفون تماماً، خاصة من الأطفال، ويعدون في قائمة المفقودين. واحد من كل 200 طفل يتم التبليغ عن اختفائهم سنوياً، مقابل شخص من بين 500 بالغ. الأسباب الكامنة وراء الاختفاء عديدة ومتنوعة. وتتفاوت، تبعاً لذلك، النسب في قصدية الاختفاء، والدوافع. التفكك الأسري يأتي في مقدمة الدوافع، وتليه حالات الإصابة بأمراض الاختلالات العقلية بأنواعها، والخَرف.

بريطانيا ليست الدولة الغربية الوحيدة التي تعاني هذه القضية المقلقة. لكن أعداد المفقودين فيها تبدو ملفتة للاهتمام أكثر من غيرها. ما يثير الاستغراب، ومن خلال تجربتي الشخصية، أن الإعلانات ذات الصلة بحيوانات مفقودة أكثر انتشاراً من نظيرتها المتعلقة ببشر مفقودين. الأمر الآخر أن الإعلانات عن البشر المفقودين التي صادفتني لا تتضمن وعوداً بمكافآت مالية لمن يقدمون معلومات تفيد في العثور عليهم.

في طريق عودتي الى البيت، توقفت مرة أخرى، أمام نفس الإعلان، متمعناً في صورة الكلب المفقود، ومتمنياً في قرارة نفسي لو تواتيني الجرأة لصياغة إعلان عن وطن مفقود، مرفوقاً بصور وخرائط ومعلومات، وألصقه على جذوع كل الأعمدة والأشجار المصطفة على جانبي الشارع!