Atwasat

بيتي

أحمد الفيتوري الثلاثاء 18 أغسطس 2020, 08:50 صباحا
أحمد الفيتوري

نحت الصخر"بيت الحفر"، هذا قام به أجداد أمي، من حفروا بيوتهم في باطن الأرض، في جبل غريان بليبيا، ما ندر مثيله، وهم لأجل ذلك بناؤون، لقد صرعوا المستحيل، مثلما فعل سكان الصحراء، من اخترعوا من المحال حياة، فلم يركنوا للسهل والنهر. كأنما روح أجدادي، بثت في جسدي، فوجدتني طفلا يصنع ألعابه، ثم صبيا يكون فريقه، وفي كل العمر كان الخيال خلا، أتبعه أكثر مما يتبعني ظلي. وأذكر عند الصبا، أنشأت بيتا، من بقايا الخشب المرمي في الشارع، فكان ملعبا لي وأقراني، وفي حين حولته لمسرح خيال الظل، ما رسمت وقصصت، وكنت الممثل فيه، منذ البدء كان بيتي مضافة لأصحابي.

عشت في بيت أبي، في المربوعة/غرفة الضيوف، ما حولتها إلى بيتي، وكذا حين انتقلت كصحفي إلى مدينة طرابلس، كانت غرفة الفندق بيتي فمضيفتي. حتى تسنى أن تكون لي شقة، فكانت أيضا بيت أصدقائي وصالوني الأدبي، أظن لم تغدُ بيتي، الشقة التي في الدور الخامس، دون مصعد، بحي قاريونس، على أطراف بنغازي. لهذا تركتها فجاءة بعد سنوات عشر، دون مقدمات ولا شروح، دون أن يكون لي هدف ولا رؤية، عشت كـ (سواح، وماشي في البلاد سواح)، أردد أغنية شبابي، مع المطرب عبد الحليم حافظ.

عشت رحلة الضياع، كاليهودي التائه. و ذات مساء، في الظلام الدامس، مررت بشارع "جمال عبد الناصر" في بنغازي، ذاك الشارع غطت سبله أغصان أشجاره المهملة، حيث شاهدت الأشباح تخرج وتدخل، من بين شبكة الأغصان، التي تغلق الطريق والرصيف. بفضول الليل اندسست، فرأيت عمالا مصريين، يُنزلون خردة من شاحنة، ويدخلون بها إلى فتحة، تبينت أنها باب بيت، اندلفت خلفهم، في الظلمة شاهدت خرابة، لكن لبرهة وكما شطح صوفي، جنح الخيال من البيت الراهن، إلى البيت الماضي، مما خيل لي انبثق حب، ذاب في الريق، وقد استنشقته مع رائحة، بخور وعطور قديمة،عبقة بالجمال، لم يكن في إدراكي، أن الحب كائن المخيال.

عدت من رحلة الشك، إلى اليقين أن هذا بيتي، بدأب انخرطت في استقصاء صحفي، عرفتُ المالك وقصة البيت، ما بُني خلال العهد الإيطالي، في العقد الثالث من القرن العشرين، ومالكه الأول سيدة ايطالية، مسئولة بالحزب الفاشي، وأن من أصدقائي من سكنه، الشاعر راشد الزبير، بإصرار من مقدرة له، بثقة وإصرار زادهما الحب، أردت أن يكون البيت بيتي، الزمان: 3/ 3/ 2003م. وقعت عقد ملكيته، المكان: وسط البيت على ركام من خردة. الحضور: الأصدقاء، صاحب البيت على بوهدمه، وعبد المولي لنقي، وراشد الزبير، والمحامي عمران بورويس، وإليهم يرجع الفضل في تحقق الحلم.

معمار البيت شائق، مزج البيت الليبي المفتوح على الداخل، مع البيت الإيطالي الشائع، سقيفة المدخل تؤدي بك إلى طرقة بمدخلين، كل منهما يدخلك لممر مسقوف، في الممر ثلاث غرف وحمام ومطبخ صغير بينهما باب، تخرج منه إلى وسط البيت ما لاسقف له، وما كل الغرف والحمام والمطبخ، لها نوافذ تطل عليه، حيث السقف زرقة السماء، الهواء، الشمس، الفريد أنه بيتان في بيت. مفرد ودون زاد يذكر، نحت الصخر كي أعيد له شبابه، وأن لا أحدث فيه أي تغيير، حتى في أشيائه الصغيرة، وزرعت في وسط البيت كرمة، وجعلت له نافورة صغيرة، ولما كان كل بيت فيه مفصولا عن الآخر، تمكنت من جعل بيت لمكتبي ومكتبتي، ومضافة للأصدقاء والأحبة، ما تحول مع الوقت إلى صالون أدبي.

بيتي مساحة لقاء الود، كثيرا ما عقدت فيه، الندوات والأمسيات الشعرية، وتمت محاورات فكرية وأدبية، وجلسات لمناقشات سياسية حادة، وإعداد لملتقيات ومهرجانات، وحيث أمكن للكثير من مثقفي البلاد ومن خارجها، التعارف والحوار، ومنه انطلقت مشاريع ثقافية، وخطط لنشر كتب، كما تنوع اللقاء بين فنانين تشكيليين وموسيقيين ومغنين، ومن هذا حيوطه كما معرض للوحات أهداها مبدعوها للبيت، ومكتبته السمعية زاخرة باسطونات مهداة، حتى من أوطان بعيدة، كأمريكا مثلا، وفي المكتبة ثمة صحف ومجلات وكتب نادرة، وحتى بعض المخطوطات.

هكذا تسنى لي وللأصدقاء، في هذا البيت مساحة ود وإبداع، وفي أثناء الترميم والصيانة، قال صديق ما تتمنى أن يكون هذا البيت، بعفوية أجبت مقرا لصحيفة أو دار نشر، الأمنية التي لم تذهب سدى، وقبل أقمنا حفلات بالبيت لنشر كتاب وما شابه، وفي مرة وقد صدر لي أكثر من كتاب، أقمتُ حفل توقيع بالبيت، حضر الحفل صديقات وأصدقاء، زميلات وزملاء، وقدم فيها مشاهد تمثيلية وغناء وأمسية شعرية، وكان باب البيت مشرعا والدعوة مفتوحة.

أيام ثورة فبراير2011، تحقق الحلم، تحول البيت ساحة، وفندق، فمقر لجريدة، من جاء من بعيد أقام به، والقريب يتردد كل يوم، حيث الجمع يلتقون، يتناقشون، فينطلقون لساحة المحكمة والجامعة الدولية ومحطات التلفزيون، وفي الأذهان محصلة اللقاء. وكنا أنا وسالم العوكلي وأحمد بللو والمصور أحمد العريبي، نجهز لإصدار الجريدة التي كانت "ميادين". في الحين الفنان والصحفي محمد مخلوف مع محطة BBC العالمية، حول البيت إلى استوديو، وكذا فعلت CNN، ومراسلة فرانس 24 والمونتي كارلو الصديقة هدى إبراهيم، والجزيرة جاءت بسيارتها لنقل مباشر من البيت، ما ترددت عليه في الأثناء، شخصيات عربية وأجنبية إعلامية وسياسية وثقافية.
وفي لحظة، وبخط اليد المتواضع، كتب أحد الأصدقاء، على ورق كرتون: (مقر الجريدة)، وعلق ذلك على باب بيتي....