Atwasat

عن العجز وغدر البحر.. والشعر

محمد عقيلة العمامي الإثنين 17 أغسطس 2020, 03:38 صباحا
محمد عقيلة العمامي

ومرت الأيام متثاقلة، حزينة. لم يتغير شيء وإن كنت أقنع نفسي أن الآلام خفت وأنني سريعا سوف أمشي كالناس مرفوع القامة، لا عكاز، ولا كرسيا متحركا. مضى شهر ولحق به الثاني، ولم يتغير شيء سوى أن "كروكوريان" الذي كنت أناكفه باسم (كلماكا) كثرت زياراته الليلية، كلما داعب النعاس أجفاني. لا أدري إن كنتم تتذكرونه أم لا؟ إنه ذلك العجوز اليوناني، الذي وظفته كثيرا في كتاباتي خصوصا في روايتي "الكراكوز"، التي منها جعلت ابنته تدفنه في جزيرة (رودس).

وأنا لم أقل لكم من قبل أن اسمه "ديمتري" وأنه بالفعل صياد اسفنج، وهو من جزيرة (كليمنوس) القريبة من تركيا، وهي التي تتفق مع (كريت) في مقتهما الشديد للأتراك، بسبب احتلالهم للجزيرتين.

جزيرة (كليمنوس) مشهورة بصيد الإسفنج، ورجالها وصولوا أمريكا سعيا وراءه. وأخبرتكم أن (كروكوريان) أو (كلماكا) وحتى لا يختلط الأمر دعونا نسميه باسمه الحقيقي (ديمتري) كان يقول متفاخرا أن التاريخ يؤكد أن أجداده أسياد البحر، وقال لي ذات مرة من بعد أن سخرت منه: "لما نهب الرومان كنوز أثينا وحملوها في ثلاث سفن، واتجهوا نحو روما، جنحت بسبب حمولتها، وغرقت ولم يستطيعوا إنقاذ حتى برميل نبيذ واحد، واعلم أيها المتخلف، أن صيادي الإسفنج اليونانيين، هم من أخرج كنوز اليونان المنهوبة، ولا أعتقد – يا جاهل – أنك تعرف أن تحفة تمثال الإله "زيوس" المنتصب في ردهة مبنى الأمم في نيويورك، هو أحد هذه الكنوز وأهدته الحكومة اليونانية باسمنا نحن صيادي الإسفنج، أرباب هذه المهنة من أيام "هوميروس، فأخبرني أنت ماذا أهديتم لها سوى مشاكلكم؟" وبالفعل تمثال "زيوس" في ردهةالأمم المتحدة.

"ديمتري" هو من فسر لي أن زوربا، ليس مجرد بوهيمي يعشق الرقص والغناء و (البزوكي)، وأن اليونانيين ليسوا مجرد قوم يحبون السهر والإنفاق والرقص فوق الصحون المحطمة، كان كأي يوناني معجونا بروح المغامرة والسهر والأوزو والبزوكي والنساء شرط ألاّ يصل أمرهن إلى الزواج. قال لي: "أنت فقط اختر الفتاة وأعلن أنك تريدها زوجة وسوف تقوم هي وأهلها بتغطية تكاليف كافة بيت الزوجية والفرح وكل ما يخطر على بالك، ولكن مقابل ذلك ستفقد أعزما يملكه اليوناني وهي حريته!".

ولما أخبرته، ذات مرة، أنني قرأت أنه ليس من حرية تتوفر لمخلوق كتلك التي يملكها ربان السفينة فوق قمرته قاطعني: "عن أية حرية تتحدث؟ أنا أتحدث عن حرية الروح التي لا علاقة لها بالمكان! ألم تلاحظ كيف أن معظم الرقصات اليونانية تتخللها قفزة في الهواء؟ أنها ليست مجرد قفزة وإنما مجرد مشاكسة الجاذبية التي تربط المرء بالأرض!".

مأساة صديقي "ديمتري" لم أعرفها إلا بعد موته، بسنوات، ولكنها لم تتسلط عليَّ إلاّ هذه الأيام من بعد أن عجزت عن المشيء لشهرين فقط ، وأتوقع أن يستمر العجز شهرين آخرين.

كنت أخبرتكم من قبل عن أولئك الغطاسين الذين كنا نراهم في الخمسينيات والستينيات، في ميناء بنغازي متقرفصين فوق سطح مركب صيد الإسفنج لا يتحرك منهم شيء سوى أعينهم وبالكاد أطرافهم. إنهم أصيبوا بداء (القيسون) وهو باختصار شديد تغير الضغط عليهم أثناء الغطس، فتتسرب فقاعات نتروجين في الدم، وتسبب مشاكل خطيرة، وكانت زمان تصيب الغطاس بالشلل التام، ولم ينتبه العلم لذلك إلاّ بعد أن جعل من غطاسين في عز الشباب، مجرد أكوام كحبال السفينة.

كان الغطاس منهم ينتبه إلى أن تلك الفقاعات اللعينة تسربت إلى شريانه عندما يشعل سيجارته وينتبه إلى أن مذاقها مزعج! ثم يتطور حاله من سوء تحريك أطرافه إلى عجزه التام، فتظل حياته مرتبطة بالمركب والغطس لأنه ما إن يرتدي بدلة الغطس ويدلوه في البحر وما إن يصل عمقا محددا حتى تأخذ أطرافه تتحرك وكأنها لم تصب بهذا الداء اللعين.

صديقي ديمتريس لم يحدثني أبدا عن ابنه الغطاس الذي أصيب بهذا الداء؛ لقد علمت فيما بعد، من أحد رفاقه أنه لم يتركه أبدا، وكانت متعتهما عندما يغطسان معا وتأخذ أطراف ابنه تتحرك كما لو أنها سليمة. قالوا لي أنهما يخصصان من الوقت المسموح لهما بجمع إسفنجهما، حتى يأخذا في الرقص والقيام بحركات نحن نعلم أنهما كانا يستمتعان بها. وكاد ديمتريس نفسه أن يتأذى ذات مرة لولا نجدة ابنه له! ومنها ترك الغطس وظل راعيا ورفيقا لابنه إلى أن التقطته السماء من أعماق هذا البحر الغدار.

وهذا الغدر الذي ألصقته الآن بالبحر ذكرني، بصديقي حسن بشون، الذي فقد شقيقه في بحر الشابي، حيث ترعرعت عائلة بشؤون في مواجهته مباشرة، وأعتقد أن أحد أفراد هذه العائلة هو من يتولى صيانة فانوس منارة بنغازي حتى الآن.

ولقد أنجبت هذه العائلة شعراء، أحدهم هو صاحب النشيد الشهير: "هذه الأرض هي العرض لنا" التي كتبها ولحنها الشاعر الفنان سالم بشون. أما شقيقه مسعود بشون، فهو أيضا شاعر له عدد من الأغاني الشهيرة، لعل أشهرها أغنية "قمري يا امي كل ليلة يطلع" التي تغنت بها المطربة التونسية نعمة وذاع صيتها.

أما حسن بشون كان منذ صغره أفضل من يغني "الموال الليبي"، وعلى أثر فقدانه لشقيقة في البحر، تغنى بموال مطلعه: "غدار البحر غدار .." فأمسى أشهر المواويل الليبية في ذلك الوقت. لقد غناه بحرقة أخ على أخيه، الذي فقده، أمام عينيه في ذلك البحر الذى كحل عينيه منذ أن خرج أول مرة من باب بيتهم، من دون أن يعلم أن امتداده، عند الضفة الشمالية مقابل بيتهم مباشرة، فقد ديمتري ابنه، وقد يكون رفاقه البحارة قد تغنوا، أيضا، بأغنية يلومون فيها البحر على غدره! ولكنه يظل رغم ذلك كله أن البحرنعمة الحياة.